أكد بيان الرئاسة الصادر بتاريخ 15 يناير 2019 بما لا يدع أي مجال للشك بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز حزم أمره واتخذ قراره النهائي ولا ينوي تغيير الدستور ولن يتقدم لمأمورية ثالثة.
وأطلق البيان رصاصة رحمة مسومة على حراكات شعبوية كادت أن تعيد البلاد إلى عهود التأزم والاحكام الديكتاتورية العبثية المقيتة، وكان فخامة الرئيس على موعد حقيقي مع التاريخ مستشعرا خصوصية اللحظة حين أدرك أنه من الأنسب مغادرة السلطة بطريقة دستورية بدل أن تغادره هي بطرق أخرى تضر به وبالبلاد.
وموقف الرئيس هذا يذكر فيقدر ويشكر لأنه يفتح أخيرا أمام موريتانيا فرصة حقيقية لتحقيق تداول سلمي ديمقراطي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، ويفتح أمام الرئيس فرصة الخروج الآمن من أوسع الأبواب بوصفه رئيسا حقق إنجازات ملموسة على الأرض توجها بتكريس انجاز التناوب الديمقراطي كثاني رئيس جمهورية بعد المرحوم اعل ولد محمد فال يغادر القصر الرمادي طواعية جهارا نهارا إلى منزله معززا مكرما احتراما لرغبة الشعب مصدر كل السلطات.
لقد أصدر الرئيس بيانا جيد المعنى والمبنى من الخارج بطريقة استعجالية أخالها مبررة سياسيا واقتصاديا، فعلى الصعيد السياسي وصل العد العكسي لرئاسيات 2019 مرحلة متقدمة، ففي 1 مايو عند منتصف الليل يغلق إيداع ملفات الترشح لأن القانون ينص على أن ينتهي آخر أجل لاستلام الملفات 45 يوما قبل يوم اقتراع الشوط الأول الذي يتوقع أن ينظم يوم الأحد 16 يونيو 2019 وإن لم يكن هنالك شوط ثاني في 30 يونيو 2019 تتلاحق مساطر استلام السلطة من طرف رئيس الجمهورية المنتخب وتستكمل إجراءات مغادرة الرئيس المنتهية مأموريته.
وبالإضافة إلى عامل الزمن كان من الضروري أن يضع الرئيس حدا لمبادرات "انتهاك الدستور" والقوانين والنظم المعمول بها من طرف بعض المحسوبين عليه بوصفه المسؤول الأول عن احترام قوانين الجمهورية الساهر على عدم انتهاكها.
وعلى المستوى الاقتصادي ألقى عصر الغاز الذي دخلته موريتانيا على حين غفلة من شعبها بكل ثقله في ميزان الاحداث، فكبريات الشركات الدولية الضالعة في موضوع الغاز والتي دفعت إلى توقيع الاتفاق المعجزة لتقاسم الإنتاج بين موريتانيا والسينغال كانت قد بدأت تعبئة ما يناهز 73 مليار دولار تتطلبها إقامة البنية التقنية لبدء استخراج الغاز على مدى 50 سنة قادمة وتهتم هذه الشركات اهتماما منقطع النظير ومن خلفها دولها وكرتلات المساهمين فيها باستقرار المنطقة وبقائها فضاء آمنا وجاذبا للاستثمار على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وكاد تصاعد دعوات المأمورية الثالثة وما واكبه من احتقان في المشهد السياسي أن يرسل إشارات سلبية على هذا المستوى نجمت عنها شكوك لدى بعض الممولين حول هشاشة الواقع السياسي الداخلي كان لابد من تبديدها بسرعة فموضوع الغاز موضوع وطني إقليمي ودولي بامتياز وفخامة الرئيس مدرك تمام الادراك لما ورائيات الموضوع ولمآلاته وقام بدور كبير في إزالة كل العراقيل والتحفظات على المستوى الإقليمي ويهمه كثيرا أن يكون الانطلاق الفعلي للإنتاج مسك ختام مأموريته الأخيرة التي يتطلب انهاؤها بصورة ناجحة بالإضافة إلى توضيب المشهد الاقتصادي إعادة ترتيب المشهد السياسي على أسس جديدة
ولا يستبعد أن تشهد مرحلة ما بعد البيان الرئاسي فتح حوار جاد مع من كانت توصف بالمعارضة الراديكالية حول تنظيم انتخابات شفافة فهنالك قواسم مشتركة حقيقية بين سعي الرئيس لترتيب المشهد الداخلي ومطالب المعارضة التي كان من أهمها تأكيد الرئيس على عدم الترشح وقد فعلها، أما مواضيع شفافية الانتخابات وإعادة هيكلة لجنتها ورقابتها الدولية وتحيين اللائحة الانتخابية فكلها أمور في المتناول ومتاحة في الظرف الزمني المتبقي وتتناغم مع دعوات الفرقاء الغربيين ومع شروطهم للمشاركة في تمويل انتخابات رئاسية شفافة ونزيهة، كما لا يستبعد أن يكون من أهداف الحوار المرتقب البحث عن مرشح جامع تجمع عليه الموالاة والمعارضة فالتباين القائم على هذا المستوى ليس اختلافا على مصالح الوطن العليا بقدر ما هو خلاف مصالح وتموقع وحسابات شخصية وجهوية وفئوية يمكن تجاوزها في لحظات التحول المصرية التي تعيشها البلاد، فموريتانيا اليوم أمام فرصة سانحة هرمت من أجل بلوغها أجيال واجيال لتحقيق التحول من أنظمة الحكم المشخصنة المهجنة إلى دولة قانون ومؤسسات مدنية تفتح أمامها آفاق حقيقية للتطور والنماء وبإمكانها أن توظف ما لديها من مقدرات اقتصادية هائلة لخلق إطار حياة أفضل لكل الموريتانيين وبات في متناولها أن تحقق معدلات نمو من رقمين في أفق 2025 وأن تضمن عبورا آمنا إلى مصاف الدول المزدهرة المتقدمة في هذا الجزء من العالم.
فهل يكون البيان الرئاسي الخطوة الأولى على طريق الأمل هذا؟