نظمت دائرة الثقافة في الشارقة مساء أمس الأول في النادي الثقافي العربي معرضا تشكيليا خطيا بعنوان "رؤى البردة" جمع بين الفنان د.عمر عبد العزيز والخطاط د.محمد الأمين السملالي، وأقيمت على هامشه جلسة فكرية تحدث فيها د.السملالي عن "صورة الرسول الإنسان في البردة"، وحضر حفل الافتتاح إبراهيم سعيد رئيس النادي.
يطرح د.عبد العزيز في تجربته الجديدة قراءة لونية بصرية لأبيات مركزية في قصيدة البردة الخالدة للإمام البوصيري، عبر عدة لوحات تشكل كل لوحة ملمحا من ملامح أحد تلك الأبيات، ويقوم د.السملالي باختيار الخط المناسب والشكل المتناغم مع تلك اللوحة، فيخط البيت داخل اللوحة بطريقة فنية رشيقة تجعله مندمجا تماما مع اللوحة، ولا تتخذ الكتابة شكلا خطيا أفقيا، وإنما تتحرك في عدة اتجاهات، وبأشكال هندسية متعددة تماشيا مع الفراغ المتاح، ومع حركة اللوحة كلية، وكمثال على ذلك اللوحة التي تمثل قراءة للبيت الشهير:
وراوَدتْه الجبال الشُّم من ذهب
عن نفسه فأراها أيما شَممِ
يرسم الفنان جبالا شامخة تبدو من خلف المنازل في شموخها وكبريائها الذي تسيطر به على الأجواء، فيأتي الخطاط فيخط البيت بشكل أوفقي ثم يرتفع بنهايته عموديا بأعلى حتى ينتهي أعلى من الجبال عند آخر نقطة في أعلى اللوحة، وفي البيت الذي يقول فيه البوصيري:
وأكدت زهدَه فيها ضرورتُه
إن الضرورة لا تعدو على العصم
رسم الفنان عبد العزيز جرة ماء فقط مع أفق بلون أصفر، دلالة على قلة الموجودات وتقشف الحال، لأن جرة ماء هي أقل ما يمكن أن يمتلكه الإنسان في هذه الدنيا، وهي ضرورة وليس بعدها إلا التراب، ما يحيل على الزهد في الحياة، وجاء الخطاط السملالي، فكتب البيت بالديواني بشكل شاقولي على شطرين أحدهما فوق الآخر، في منتصف الفراغ الذي تركته الخلفية بلا لون، وبالتناظر مع الجرة، فصنع بذلك توازنا كتليا بديعا، وإحالة تشكيلية متناغمة على زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مبتدإ الدعوة إلى الله فقيرا عائلا، لكنه عفيف النفس كريم الخلق لا يَستبِيه حطام الدنيا الفانية.
وفي لوحة ثالثة استلهم الفنان البيت:
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبل غير منفصم
رسم الفنان يدا ممسكة بغصن أخضر بقوة شديدة يشي تناوب اللون الأحمر والأصفر في أصابع وكف تلك اليد، وترك الخلفية كلها بيضاء لكي يوحي بالوضوح الكامل الذي يحيل على وضوح طريق الإيمان الذي يسلكه الرسول وأصحابه، ويسلكه كل من تمسك بدينه، وكتب الخطاط البيت بشكل شاقولي في فراغ متناظر مع الرسمة، وجعل كلمة المستمسكون متراكبة مع كلمة مستمسكون، لكي يشدد على التعاضد والتماسك الذي يحيل إلى قوة الإيمان.
هكذا تتكرر المشاهد اللونية والخطية التي تحمل روح الإيمان وعبير خلق الرسول الكريم كما سطرها ذلك الشاعر الفذ البوصيري، وتركها تعيش قرونا خلفه، لتشكل مصدر إلهام لأشكال لا نهائية من التعبير الفني والأدبي على مر العصور، وقد شكل المعرض تجربة فنية حروفية وبصرية رائقة، فيها الكثير من البهاء الفني والروحي الذي ينسجم مع أجواء هذا الشهر الكريم، بما فيه من سمو روحي يعيشه الصائمون في أيامه ولياليه البهية.
ختام الأمسية الفنية كان بمحاضرة للدكتور السملالي تحدث فيها عن هذه التجربة الجديدة عليه وعلى الدكتور عمر عبد العزيز، ومحاولتهم مزج الفنين الإبداعيين مع الإبقاء على خصوصية كل واحد منهما بحيث يتواشجان على قاعدة التكامل الحميد، وقدم رؤيته عن عملية التوأمة بين الرسم والخط العربي، وكيف قدم الفنانان معطى إبداعيا يستحق الإشادة والتنويه.
كما تحدث عن تاريخ ومضامين قصيدة "البردة" التي نظمها الشاعر الصوفي الإمام محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري المصري تحت عنوان "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، وقد جمع فيها من محاسن الرسول الخَلقية والخُلقية ما لم يجمعه غيره، وذكر فيها دعوته وما لاقاه من أذى في سبيلها، وذكر فيها الزهد وحسن الإيمان وأنه النجاة للمرء في الآخرة، وقد فتح البوصيري بهذه القصيدة وقصيدته الهمزية الأخرى نهجا في مدح الرسول لم يكن موجودا، وجذبت سلاسة شعره وحسن عبارته وقوة صورته وتدفق مشاعره الإعجاب والقبول لقصائده، فأصبحت على كل الألسنة، وأصبح الشعراء يحتذونها ويعارضونها حين يريدون مدخ خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
موقع سدنة الحرف