الشيخ محمد المامي بن البخاري الباركي نسبا، الأشعري المالكي مذهبا،هو أحد علماء وصلحاء منطقة تيرس العالمة، ولد سنة1781م، وتوفي سنة 1861م، ودفن بمنطقة أيگ بإقليمالداخلة جنوب المغرب.
تروم هذه المقالة تسليط الضوء على بعض المعاني الصوفية التي تكتنزها أشعاره الشعبية، والكشف عن جمالياتها الروحانية، ومعانيها العرفانية، من خلال استنطاق بعض نصوصه الشعرية الحسانية المعروفة محليا ب(لِغْنَ).
الدعوة للأخوة والتسامح بين أهل التصوف:
يدعو الشيخ محمد المامي إلى تقدير وتوقير كافة المذاهب والطرق الصوفية المتعددة وعدم الإنكار على أحد منها، إذ كلها تمثل مسالك ترشد الحائر، وتهدي السائر في الطريق إلى الله تعالى، و تمتح جمِيعها من مورد واحد هو المنهل النبوي الصافي، ولا ينبغي للمريد إنكار شيء منها.
وهذا ما نستبينه في قوله:
رَسُولْ اللَ حَاسِ بَارِدْ لَشْياخْ امْرَايِرْ لِلذاهِبْ
وَل لاَ تِنْكِرْ يَــلْوارِدْ لِلْحَاسِ كِثْرِتْ لِمذَاهِبْ
وتأييدا لهذه الروح الأخوية السمحة والدعوة إلى التسامح بين مختلف الطرق الصوفية، يقول معاصره العالم الولي العارف، محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي الباركي (1803 - 1901 م)، مؤكدا لنفس المعنى، موضحا أن على المريد مع إجلاله لشيخه أن لا ينكر فضل غيره، لأن ذلك من فضل الله الواسع الذي لا يحد و لا يحصر أو يُقصر :
حُكم التلْمِيدِي يعتَقــــــــــــد عَن شيْخُ ما كِيفُـــــو حــــد
أُلا يِنكر شيخ اوخَر فِبْلَدْ اللَ واسِع وِلْمَواهِــــــــبْ
مَا يـِگْدِر يِحْصِيهُم بِلْعَدْ يَكُون الكريم الوَاهـِـــــــبْ
تقويم مفهوم الزهد وبيان حقيقته :
يحرص الشيخ محمد المامي على تعميق القيم الصوفية الحقة، المنبثقة من معين المعرفة القرآنية والحكمة النبوية، و في هذا السياق نجده كثير الإلماع إلى حقيقة الدنيا الفانية، والتنبيه على عدم الغفلة عن الآخرة . يقول في هذا الشأن ، مضمنا للمعنى الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب )
يَلاهِ لِلدنْيَ تِبْنِ وَاخِرْتَكْ بِيهَ ماتِعنِ
لا يِشْگيِكْ الِ ما يِغْنِ مَا هُوَ إلا السرَابُ
ولا يملأ جوف ابن آدام إلا التراب
والمعنى الإجمالي هنا : أيها المقبل على تحصيل الدنيا غافلا عن آخرتك غير معتن بأمرها، لا يُشقيَنك ما لا يغني ولا ينفع من شؤون الدنيا، فحقيقتها إنما هي سراب، وفي الحديث : (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) .
وفي بيان حقيقة الدنيا و تقلب أحوالها، وذم التعلق التام بها، و تقويم التصور السلبي لمفهوم الزهد فيها، يقول :
دَلْو الدِنْيَ عَايِدْ مَشْــگُوﯓْ گَايِلكْ يَلْمُولِعْ بِيهَ
مَا يِتمَوْنَكْ فِيهَ مَخْلُوﮒْ مَا هُ وَاحِدْ زَاهِدْ فِيهَ
وَفْطَنْ زِهدَك ماهُ بِرْباكْ وِاتكَدْويكْ وُگِـلتْ مَزاكْ
أَبْدَ مَاهُو هُــــــوَ هَذاكْ هُو گِلتْ حِزْنْ اعْلِيهَ
ؤگلت بَلْــﮒَ يَكانْ اعْطَاك الله اللِ دَايِرْ فيــــهَ
يشبه الدنيا هنا بالدلو المخروم قعره (مشگوﯓ)- و هو إناء يستقى به في البئر كما هو معلوم - وهذا التشبيه كناية عن عدم التعلق بالأسباب الدنيوية تعلقا كبيرا و قطع الاعتقاد فيها بشكل تام لتحقيق المراد، بحيث يكل المرء إليها أمره بالكلية ، بل الصواب أن يتخذ الأسباب ويتوكل في الأمر على الله وحده، ووجه استعارة الدلو للبيان أنه سبب لاستجلاب الماء من البئر، لكنه قد يكون مخروما وبالتالي لا يفيد في الحصول على المطلوب والمرجو وهو السقيا وتحصيل الماء، فهو سبب لكنه غير كاف وحده لحصول المراد، لما يعتريه من عوارض النقص والخلل، وكذلك حال الأسباب الدنيوية، فهي مجرد وسائل لا تجدي، بغير استعانة بالله، فله الأمر وهو المدبر سبحانه. ولما كانت تلك حقيقتها فإنه يعظ المولع بها بالزهد فيها لأنه لا راحة للمخلوق إلا بذلك، و حقيقة الزهد الصوفي كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، هي قوله : (الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله) .
و يوجه الشيخ محمد المامي أيضا إلى بعض المظاهر التي لا صلة لها بالزهد الصوفي ، فالزهد ليس سلبية واعتزالا للدنيا و التماطل والتقاعس(ارباك)، و التراخي (اتكدويك)، وعدم المردودية والفاعلية والإنتاجية (مزاك) ، بل هو مرتبط بالقلب ومدى خلوه من التعلق بالدنيا والشهوات، و التحقق بهذا المعنى يفضي إلى عدم الحزن على فقد الدنيا وتقلب أحوالها من حسن إلى سيء، هذا في حال الشدة، وهو قوله الذي اشار اليه بقوله: (هُو ﯓِلتْ حِزْنْ اعْلِيهَ)
كما أن من حقيقة الزهد أيضا عدم التكبر و الغرور والتعالي على الخلق إذا أفاء الله عليك منها، وبلغك مرادك منها، و هذا في حال الرخاء. وهو الذي عناه بقوله:( ؤڮلت بَلْــﮒَ يَكانْ اعْطَاك // الله اللِ دَايِرْ فيــــهَ).
ومن ثمّ، فالتصوف بريء كل البراءة مما يحاول إلصاقه به بعض الذين يدّعون أنه خمول وتواكل وسلبية، وترك للعمل، إن التصوف هو وضع للدنيا في موضعها الصحيح، وقد قال عليه الصلاة والسلام للنفر الذين أعرضوا عن الدنيا بالكلية: " أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني''.
التنبيه على أهمية تزكية الباطن وطهارة القلب
إن جوهر التربية الصوفية هو الاشتغال بتزكية النفوس و إصلاح القلوب بالاستقامة على الطاعة ، واصلاح الباطن تخلية وتحلية. و قد اعتنى الشيخ محمد المامي عناية كبيرة بهذه الجوانب كلها، و يجد الناظر في روائعه الشعرية الشعبية والفصيحة تجليات كثيرة لهذه المعاني والمقاصد، منها قوله رحمه الله في دلالة ظاهر الإنسان على باطنه :
أُوجِه وِل آدم مِسْتَظْيَڮْ عَن سِر أكْبَر مِنو يِخْفِيهْ
وِامْع ذَاكْ الظِيگْ إِزَرْڮَڮْ بِسْمِنْ حِيلَة يِدْرِڮْ شِي فِيهْ
ومعنى الــگاف- وهو البيت من الشعر الحساني-، أن الإنسان يبدي وجهه ما في باطنه، ومهما حاول اخفاؤه أو التحايل لإظهار خلاف ما يبطن فإن ظاهره لا ريب سيكشف ما يُسِر، لذلك فعلى الانسان أن يصلح باطنه ويشتغل بتزكية نفسه وتطهير قلبه ، وهذا هو مناط التربية الصوفية و مقصدها الأسمى.
و يصدق هذا المعنى قول الشاعر :
محيا المرء أصدق ترجمان على كنه المغيب في الفؤاد
احمد بزيد بارك الله (باحث)