إن مشاغل الحياة البعيدة جدا عن حقلي : الثقافة والسياسة واهتماماتهما قد أبعدتني قسرا منذ فترة عن الكتابة ومتابعة الأحداث .... إلا الحدث الذي يفرض نفسه علي الجميع ومنه بكل تأكيد انشغال العالم كله بمتابعة فيروس كورونا ... فقد أقعد هذا الحدث الأبرز جميع الناس في بيوتهم ليجدون أنفسهم في فراغ مفروض وراحة قسرية لمدة أيام أو أسابيع وربما أشهر لا قدر الله، وقد أملت هذه الراحة على الناس التفكير في ملء الفراغ الحاصل .
وخير ما اطلعت عليه من اقتراحات المدونين حول ملء هذا الفراغ هو ما تقدم به الأخ الكريم : الهيبة ولد الشيخ سيداتي ، حيث اقترح قراءة القرآن الكريم بانتظام وختمه مرة أو أكثر في اليوم أو الأسبوع حسب المقدرة ، وإشراك الأطفال الصغار في ذلك .... هذه الراحة القسرية دفعتني إلي نفض الغبار عن جهاز كومبيوتر كان ملفوفا في أشرطة قماش كثيرة في خنشة أرز أفرغت من محتواها ،في أسفل صندوق مغلق بإحكام ولا يفتح إلا نادرا.
إنه الصديق المتنكر له المهمش والمتروك جانبا ، ومن قبل كان الصديق المفضل الملازم ، عدت إليه وأخرجته من الظلمات الثلاث : ظلمة الكيس ، والقماش والصندوق ،لعله يسمعني عندما أبوح إليه ....في زمن حرم فيه البوح ،حتى في البيت ومكان الحجر حيث يفرض كورونا مسافة لا يمكن البوح منها ـ متر ونصف تقريبا ـ إلا من فوق مئذنة نداء من البطل " سارق النار" نار تفشي المرض لترعب كورونا وتصده لما لم يعد قادرا على الانتشار بعد أن سرقت منه نار الانتشار وقذفت في عمق الحجر في صبر المحجور عليه .
أما غير ذلك من البوح فممنوع هذه الأيام إلا عن صديق حميم مثل الكومبيوتر،الذي عدت إلى صحبته مجددا لعله ينفعني في قراءة المكان والأبعاد والزوايا في ما يسمي "الهندسة الاجتماعية" أو"الهندسة التفكيكية" التي اكتشفها مؤخرا العالم الصيني "كوفيد كورونا " في مدينة "ووهان " .
تتفق الهندسة الاجتماعية أو الهندسة التفكيكية هذه مع هندسة اقليدس والهندسات التي ظهرت بعدها ، في الركائز الأساسية التي تنبني عليها وهي : النقطة ، والمستقيم ، والمكان . ففي هذه الهندسة (نقطة ومستقيم وتصور للمكان)، لكنها تختلف عنها جميعا في التعريفات والبديهيات والمسلمات وتختلف عنها في ما تريد التوصل إليه من نتائج.
فمثلا : النقطة في الهندسة الاجتماعية ليست جزءا من المستقيم ، بل هي الإنسان الذي هو من دم ولحم ، والمستقيم فيها ليس هو مجموعة نقاط متصلة بتسلسل في اتجاه معين ، بل المستقيم في هذه الهندسة هوذرات الفراغ أو قل هو حبيبات الماء ، والمكان فيها ليس منبسطا ولا محدبا ولا مقعرا ، بل مجزرا نسبة إلي الجزيرة ، فالمكان هنا متصورعلى أنه مجموعة من الجزر بمعدل جزيرة لكل إنسان ،وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا التصور للمكان قريب جدا من تصور الروسي لوباتشوفسكي للمكان حيث تصور أنه مقعرا (بمعني أن فراغات كثيرة تتخلله أي تقطعه ) ، لكن الحقيقة أن تصور المكان في الهندسة الاجتماعية ليس مقعرا بل هو على العكس من ذلك إنه فراغ مقطع ،والفراغ هنا ليس هو الفراغ بالمفهوم الفيزيائي ،بل هو المسافة بمفهومها العادي سواء كانت على اليابس أو فوق الماء فحيث ما يكون الإنسان يقوم تصور المكان في هذه الهندسة على أنه جزيرة لها حدود معلومة (مترا ونصف تقريبا ).
وفي عالم الجزر لا مشكلة في رسم الحدود ـ كما علي اليابسة الذي يتم التركيز فيه علي حساب المساحة لضبطه ـ ذلك لأن المسافة قائمة تفصل الحدين ، تماما مثل ما تفرض اليوم الوقاية من داء كورونا مسافة معلومة بين الأفراد حتى في البيت الواحد ، وكأن هذا البيت أصبح مجموعة من الجزر .
وتختلف المسلمات في هذه الهندسة الاجتماعية، عنها في الهندسات الأخرى ، فالمسلم به هنا هو أن التواصل وما يفرض من لمس للجماد أو تلامس بين الأجساد ، هو الطريق الوحيد لنقل العدوى بفيروس كورونا المتجدد ، وهنا نقترب من تصور ريمان الذي يقتضى أن لا يمكن أن نرسم ولا موازيا واحدا ، فلا تواصل اليوم بين الكائنات البشرية إذ لاوجود لمستقيم بين فردين .
أما النتيجة في هندسة الاجتماعية، أو الهندسة التفكيكية فهي بقاء الفرد حيا بعد مرور موجة كورونا هذه ، فما بين النقاط هو محور النتيجة في جميع الهندسات ، سواء ظل مجردا كما هو الأمر في الهندسة التحليلية مع ديكارت أو في الهندسة الفراغية ،أو تم تجسيده في مجسمات كما هو الأمر في الهندسة الإقليدية ، أو في حساب المسافة مع اينشتاين مستعينا بالهندسات اللاإقليدية ،أما في الهندسة الاجتماعية فمرتكز النتيجة هو النقاط ذاتها ، كما وتجسيدا ونوعا إنه الحفاظ علي الإنسان والإنسانية. ثم إنه في الهندسة الاجتماعية لا يتم حساب إلا زاوية واحدة وواحدة فقط هي زاوية باطن المرفق عند عطاس من لا منديل له ، خشية انتقال عدوى الفيروس مع رذاذه .
فإذا كانت الهندسات اللاإقليدية قد ساعدت آينشتاين ، في حساب المسافة بين حدثين في "الزمكان " وكانت هي الأنسب . وكانت هندسة اقليدس هي الأنسب لحساب المساحة وتشييد البناء في ما يعرف بالهندسة المدنية، فإن هذه الهندسة الاجتماعية أو التفكيكية كانت هي الأنسب للوقاية من داء لم يكتشف له بعد دواء وهو داء فيروس كورونا المتجدد
.فالنقرأ هذا الدرس جيدا ، ولنطبقه كثيرا ، وليس ذلك إلا بمساعدة السلطات العليا والوسطى والدنيا في تطبيق كل التوجيهات الساعية بحزم إلى الوقاية من هذا الداء : بالنظافة والحظر والحجر وملازمة البيت.