يجمع أغلب المهتمين بالشأن الثقافي بموريتانيا على أن الحكايات الشعبية باتت اليوم تواجه خطر الاندثار والتلاشي بعد التحولات الأخيرة التي عرفها المجتمع الموريتاني كغيره من المجتمعات العربية والإسلامية بسبب انتشار وسائل الإعلام، وما تقذفه موجة العولمة الجارفة من بدائل ثقافية وأنماط معرفية.
وقد شكلت الحكايات الشعبية في مرحلة معينة من تاريخ البلاد أحد أهم الروافد الثقافية بما تحمله من مضامين تعكس الصراع الدائر بين الخير والشر، بين الحياة والموت، بين القيم الفاضلة والمسالك الخاطئة، وهو صراع يتوج دائما بانتصار الخير ورجحان كفة القيم الفاضلة.
وفيما تركز الحكايات الشعبية في عالمنا العربي والإسلامي على نمط العيش السائد في المجتمع عموما، فإنها تمتاز في موريتانيا بكونها حكايات بدوية في الأساس، حيث تقوم على شخوص البادية من حيوانات وأدوات وأشخاص ذوي قدرات خارقة في التكيف مع البادية.
محمدو ولد احظانا: الحكايات بقيت لقرون تقوم بوظائف تربوية وأخلاقية هامة
وظائف ومخاطر
ولعبت الحكايات الشعبية أدوارا يصفها محمدو ولد احظانا -الباحث في المجال الأدبي والفلسفي- بالهامة والكبيرة جدا ليس فقط في تشكيل الوعي الثقافي لشعوب الصحراء، وإنما أكثر من ذلك في استمرار الحياة، وبقاء الإنسان الصحراوي على أرضه بما تطبعه في وعيه ولا وعيه من قيم وما تحثه عليه من فضائل، وتردعه عنه من مخاطر ورذائل.
ويؤكد مؤلف كتاب "معقول اللا معقول في الوعي الجمعي العربي: صورة المغيب في المخيلة الشعبية الموريتانية" أن الحكايات بقيت لقرون تقوم بوظائف تربوية وأخلاقية هامة فالأطفال يتعلمونها صغارا، والكبار يستحضرونها ويتمثلونها في حياتهم باعتبارها مهارات بشرية غنية بالحكمة والتجارب، وفي كل المجالات التربوية والعملية.
لكن هذه الحكاية باتت تواجه خطر الفناء والاندثار وفق ما يقول ولد احظانا في حديث للجزيرة نت، وذلك -في نظره- عائد إلى سببين أما أولهما فهو أنها في الأصل ثقافة شفهية لأن شظف العيش وقلة الورق ووسائل الحفظ، وكثرة الترحال والتطواف كانت تمنع الموريتانيين الأوائل من حفظ ثقافتهم، وكانوا يوثقون أساسا الجانب المعرفي الإسلامي الذي يخاف عليه من التحريف والضياع.
وسائل الاتصال
أما السبب الثاني فيعود بنظر ولد احظانا إلى انتشار وسائل الإعلام والاتصال الحديثة بما توفره من بدائل، كما أن الحامل البشري لهذه الحكايات والأساطير أصبح يتلاشى شيئا فشيئا في حين لم تستغل الأدوات والوسائط العصرية مثل المسلسلات والأفلام والمناهج التعليمة لحمل هذه الثقافة المهددة بالانقراض.
وغير بعيد من ذلك يرى الكاتب الصحفي المهتم بموضوع الحكايات المختار ولد نافع في تصريح للجزيرة نت أن الحكايات الشعبية الموريتانية باتت تتجه فعلا صوب الاندثار.
ويرجع ولد نافع ذلك إلى عدة أسباب منها مزاحمة ما يمكن تسميته بـ"آليات إشباع الخيال العصرية" عند الأطفال، ومنها ضعف التواصل حاليا بين أجيال "الحاضنة الاجتماعية" التي كانت تسرد هذه القصص من خلالها أي الأسرة وخاصة الجدات، ومنها أيضا أنه لم يحدث "تقديم عصري" لهذا الموروث بآليات معاصرة، ولهذا نجد الأجيال الشابة التي نشأت في المدينة لا تعرف شيئا عن هذه الحكايات.
نمط الحياة في موريتانيا خضع للتغيير
بفعل التطورات الاجتماعية والتقنية
نماذج من الحكايات
ولأخذ صورة عن الحكايات الشعبية الموريتانية نستعرض النماذج التالية "خراب إمارة"، "قصة صحبة الكلب مع الإنسان"، "مناظرة".
خراب إمارة
تقول الحكاية إن أميرين من إمارة (أولاد رزك) ذهبوا في رحلة صيد ومع كل واحد منهم كلبه ولما لم يعثروا على شيء عرجوا في المقيل على أسرة ضعيفة مكونة من امرأة وطفل، فارتأى الأميران تقسيم الطفل الصغير بين كلبيهما، وبالفعل شطراه بالسيف شطرين، صدمت المرأة وذهلت من روع ما جرى وبقيت تكرر "اللهم إنك ترى كأنك لا ترى".
أنهى أحد الكلبين نصيبه قبل الآخر فعدا عليه وجرحه، وعلى الفور قام صاحب الكلب المجروح بقتل الكلب الجارح، فتقاتل الأميران وأصاب كل منهما الآخر بجرح قاتل، ولما وصل الخبر إلى الإمارة انقسمت إلى فريقين ودارت بينهما حرب طاحنة أبادت الإمارة عن بكرة أبيها. (وهكذا الظلم يتسبب في خراب الدول والإمارات).
صحبة الكلب
كان الكلب يبحث عن صديق فوجد الضبع واستقر معه فلما جاء الليل ونبح الكلب نهره الضبع قائلا له اسكت، قال مم تخاف قال أخاف من النمر، فذهب إلى النمر واتفقا على الصحبة، فلما جاء الليل ونبح الكلب نهره النمر وطلب منه أن يسكت، قال له الكلب مم تخشى قال أخشى من الأسد، فذهب الكلب أيضا إلى الأسد واتفق معه على الصحبة، فلما جاء الظلام نبح الكلب فنهره الأسد وقال له اسكت، قال مم تخاف قال أخاف من الإنسان، فغادر الكلب متجها إلى الإنسان واتفق معه على صحبته وبقي حتى إذا جاء الليل نبح الكلب فلما نبح قال له الإنسان (وش له) (أي حثه على الزيادة في الإقدام) وحينئذ قال الكلب أنت صاحبي ولن أفترق معك.
مناظرة
تناظر الماء واللبن والنار والعافية (السلام) يوما فقال اللبن أنا أفضلكم من شربني فلا حاجة له لا بالماء ولا بالنار، قال الماء أنا أفضلكم فلو لم أكن فلن يوجد الحيوان الذي يمنح اللبن، ولن توجد النار، قالت النار أنا الأفضل لأنه يطبخ علي، وبي يستنار، ولولاي لم يأكل الناس، ولتاهوا في الصحراء. وحينئذ تكلمت العافية قالت أنا أفضل من الجميع فبدوني لا طعم للماء ولا للبن ولا فائدة للنار.
أمين محمد-نواكشوط / الجزيرة