يسّر الله تعالى كتابه للذكر، وأمر المؤمنين بتدبره والتعبد به آناء الليل وأطراف النهار، لأنه الحبل الممدود بين السماء والأرض.
ولذلك كان لا غنى للمسلم عن "وِرده" أو "حزبه" من القرآن في اليوم والليلة، يحفظه ويراجعه ويتدبره.
وقد تعددت المناهج والأساليب في تجزئة القرآن وتحزيبه، كما تنوعت المصطلحات المعبرة عنها، تبعا للتطور المصطلحي زمانيا ومكانيا.
كانت التجزئة الأولى في العهد النبوي على مستويين؛ مستوى الحفظ، ومستوى التدبر والتعاهد.
ففي تجزئة الحفظ كان الصحابة يحفظون في المتوسط عشر آيات تقريباً (ولعل ذلك ما أُخذت منه الأثمان لاحقا)؛ فقد روي عن (عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا لا نتجاوز عشر آيات، حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل).
وعلى مستوى التعاهد اليومي كان الحزب أو الورد اليومي أو الليلي عندهم، يتكون من عدة سور، لكي يختموا القرآن في سبع ليال، فقد سئل بعض الصحابة: كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: (ثَلَاثٌ، وَخَمْسٌ، وَسَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وفي العهد الأموي؛ شُكّلت لجنة قرآنية لإصدار طبعة عثمانية جديدة من المصحف الشريف، بإضافة الضبط والنقط (في مرحلته الثانية)، وقد عهد إليها مع ذلك بإحصاء كلمات القرآن وحروفه، وهكذا سهّل ذلك الإحصاء ظهور تجزئات جديدة تراعي التناسب العددي والزمني بين الأجزاء، فتمت تجزئة القرآن بمتوالية تصاعدية من النصف إلى الأرباع فالأسداس، إلى ثلاثمائة وستين، إلى أربعمائة وثمانين.
وإن كانت هناك روايات تعيد التجزئة بالكلمات والحروف إلى بعض الصحابة، مثل أبي بن كعب ومعاذ بن جبل.
ومهما يكن؛ فقد كانت كل واحدة من هذه التجزئات مناسِبةً لمقصد معين، من حفظٍ، أو قيام ليلٍ، أو تدبرٍ ومراجعة.
وأهم تلك التجزئات على الترتيب التصاعدي هي:
- أجزاء سبعة: وهي لختم القرآن في سبعة أيام أو ليال، امتثالا للحديث الشريف: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو كما في الصحيحين: (فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِك).
وقد كان الصحابة يسبّعون بالسور كما أشرنا آنفا.
وفي العصور اللاحقة، تمت مراعاة التوازن العددي في هذه القسمة، كما سيظهر في المصحف المسبّع.
- أجزاء سبع وعشرين: لختم القرآن في قيام رمضان، ليوافق ليلة السابع والعشرين، باعتبارها ليلة القدر، كما هو قول طائفة من السلف.
- أجزاء ثلاثين: لختم القرآن في شهر كامل، في القيام أو غيره، امتثالاً لتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر في الحديث السابق: (اقْرَإِ الْقُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ). وإذا أطلق "الجزء" فإنه ينصرف إلى هذه التجزئة، خصوصا في الاصطلاح المشرقي.
- أجزاء ستين: وهي تجزئة "الأحزاب" المعروفة في الغرب الإسلامي، وقد ترسخ هذا الاصطلاح مع ظهور قراءة "الحزب الراتب" في المساجد، حيث يُقرأ حزبان يوميّا بشكل جماعي، أحدهما بعد صلاة الصبح، والآخر بعد صلاة المغرب.
- أجزاء مائة وعشرين: لأخذ القراءة إفرادا عن الشيوخ، فيختم الطالب في أربعة أشهر. وهي أنصاف الأحزاب.
- أجزاء مائتين وأربعين: لأخذ القراءات جمعا عن الشيوخ، فيختم الطالب في ثمانية أشهر، وهي أرباع الأحزاب.
- أجزاء ثلاثمائة وستين: لمن يريد حفظ القرآن في عام واحد (من دون انقطاع)، وهي أسداس الأحزاب؛ أي فوق الثُّمن بقليل. ويعود الفضل فيها إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور العباسي، الذي طلب من عمرو بن عبيد تجزئةً يحفظ بها القرآن في عام واحد، واستمر العمل بها قرونا عديدة، قبل أن تندثر.
- أجزاء أربعمائة وثمانين: لمن أراد حفظ القرآن في عامين (مع احتساب الإجازة الأسبوعية والأعياد)، وهذه هي تجزئة الأثمان التي شاعت في الغرب الإسلامي، واعتمدت في مصاحفه، وجرى عليها عمل المحاظر الشنقيطية.
وجاءت تسمية "الثُّمن" من نسبته إلى الحزب، لأنه يمثل جزءا من ثمانية أجزاء منه.
ونظراً لتداول الأثمان يوميا في المدارس القرآنية، لم يحتاجوا إلى تدوينها، لذلك لا تكاد تجد لها تقييدات خاصة إلا قليلا، ومن ذلك القليل: تأليف للشيخ محمد المامي (مخطوط) وتأليف للشيخ سيد أحمد ولد اسمه (مطبوع).
ولا غرابة في وجود اختلافات في رؤوس الأثمان، نظراً لاتساع مجال الاجتهاد فيها، ولكنها تبقى اختلافاتٍ يسيرةً في حدود الآية والآيتين.