يتسم الشعر الحساني ببعض الميزات التي تميزه عن الشعر الفصيح، وهي سمات ناتجة عن طبيعة حياة المجتمع الناطق باللهجة الحسانية، وعاداته وتقاليده، ولا يعني هذا أن هذا المجتمع لا يتعاطى الشعر الفصيح، فقد ظهر الصنفان (الحساني والفصيج) في هذه الربوع في ظرف زمني واحد، ثم تسايرا المنكب بالمنكب، ولكن الحساني كان أشد ارتباطا بالحياة اليومية وأصدق تعبيرا عن الواقع المعيش، فكان المرآة العاكسة التي تعكس الصورة الحقيقية لحياة مجتمع البيظان.
ولم تكن هذه السمات مما يبتعد بهذا اللون عن صنوه الشقيق (الشعر الفصيح) فقد تبع شعراء الحسانية زملاءهم في الفصحى حذو النعل بالنعل، وإنما الفرق في غلبتها ــ أي السمات ــ على غرض معين في أحد اللونين دون الآخر، فالغزل العذري ـــ مثلا ـــ كان نوعا معروفا من أنواع الغزل عند شعراء الفصحى، لكنه ظل السمة الأساسية التي تطبع النصوص الغزلية الحسانية.
ولا يستغرب العارف بهذا المجتمع المحافظ عذرية النصوص الشعرية للغة تخاطبه اليومي، هذا المجتمع الذي عرف بالمحافظة والعفة والطهارة، وهي أمور يقف عليها الباحث في تراثنا الحساني اللامادي دون كبير عناء، وفي جميع جوانبه.
فيقف عليها في الأمثال كما في المثل الحساني السائر “الّْسانْ بالّْسانْ ؤُلَيْدْ مَكْرُوفَ” حيث نجد العلامة المؤرخ المختار ولد حامدن يعلق على هذ المثل ضمن كلامه على الأمثال الشعبية فيقول: اللسان باللسان واليد مقبوضة؛ وهو دستور شعبي يعني أن المغازلة بين الجنسين لا تتعدى المحادثة.
كما تقف عليها في أدب “التبراع” الذي اختصت به المرأة في هذا المجتمع دون الرجل، ذلك الأدب الذي كان الالتزام الأخلاقي والحياء أكبر عامل وراء نشأته، إذ يمنع الحياء وغيره من الموانع الاجتماية هذه المرأة من مجاراة الرجل، خاصة في غرض الغزل الذي يعتبر صدوره عنها خروجا على مألوف هذا المجتمع، فاستحدثت هذا اللون الأنثوي الذي استطاعت أن تعبر من خلاله عن مشاعرها في شكل يتم قبوله من لدن مجتمعها الذي يرفض خروج المرأة على قواعد الحياء والتقاليد الاجتماعية، فجاءت المرأة بغزلها في قوالب تختلف عن قوالب غزل الرجل، ولذلك يكاد ينعدم “التبراع” في غير غرض الغزل.
وإذا ملنا إلى استنطاق نصوص “التبراع” التي وصلتنا وجدناها وقد غلبت عليها سمة الحياء، فـ “التبريعة” غالبا لا تشتمل على اسم الرجل المغزل عليه وإنما تشير إليه بمعنى يقبل التأويل مثل قول إحداهن:
يالرَّجَّالَ تَـــــــــــــــــمُّ بحْوالَ تُبِيتْ اتْعَــــــــــــــمُّ
وحتى إذا ضمَّنت المرأة “تبريعتها” اسم الرجل، فإنها قد تخفي الغرض الحقيقي الذي تهدف إليه من وراء “التبريعة” حتى يمكن حمل المعنى على غير مرادها، مثل قول الأخرى:
نَعْرَفْ بعد انْهـــارْ دَغانِ سِيدِ في امّدْيارْ
كما أن الحكايات الشعبية التي وصلتنا، والتي لا يسمح المقام بإيراد أمثلة منها، تعكس ـــ ـــ هي الأخرى ـــ ذلك الالتزام الأخلاقي الذي كان يتحلى به هذا المجتمع المحافظ والحيي والعف.
أما الشعر الحساني والذي يعد أكبر وعاء لعادات وتقاليد هذا المجتمع، فإن الباحث في غرض الغزل منه يقرأ في “طلع” و “كيفان” شعرائنا الحسانيين الكثر ذلك الطهر والعفاف الذين كان يتحلى بهما مجتمع الحسانية، فهذا الشاعر محمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد يمينو يحدثنا في “طلعة” له عن علاقته بمحبوبته (منت اهل الشيخ)، وعن هجرها إياه، مصورا لنا أوقات لقائه بهذه الغانية، وهو لقاء عديم الجدوى، فيقول:
مَلْـﯕ منْت اهل الشيخ البــاﯕ والْتاحْ اعْلَ زر إلى فـــــرْ
غير الْ لاهِ تَجْبَـــــرْ لَخْلاﯕ منُّ ﯕد انتفّاه إﯕـــــــــــــــرْ
كل انهارْ إِظَــــل أرَيّـــــــــاظْ بيْنِ وَيّاهَ ولَفّـــــــــــــــــاظْ
واللّيْلْ ابْعِيد امْن التّغْـــــــراظْ ألا نـﯕـعد هك اعْــــــلَ زرْ
الوَعْي الّا حَدُّ تُـﯕــــــــــــــاظْ تَوْعَ واتَّم العين اتْـــــــــزرْ
واللّاهِ يُورَ منْ لَلْفـــــــــــــاظْ متباعدْ واﯕـلَيِّيلْ ؤســـــــــرْ
ؤُلاهُ لاهِ يُورَ لُخـــــــــــــــاظْ حس الْبلْ في المرْحانْ اتجرْ
وهذا المختار ولد الميداح يهجر محبوبة له محاولا العزاء عنها، وذلك كردة فعل على عدم المبالاة الذي تقابل به هذه المحبوبة كل من رام منها وصالا وبدون استثناء:
ما فتْنَ شفنَ فيــــــــــــــــــكْ ش يدْرسْ حَد اعليـــــــــــكْ
مسّاوِ عندكْ بِيـــــــــــــــــيكْ ﯕـلّتْ متْن الحَكْــــــــــــــــمَ
الِّ لُ دهر إِجِيـــــــــــــــــيكْ والْ عادْ إِجِيكْ اكْـــــــــــــمَ
ؤُ لا رَيْنَ يسْـﯕِ ﯕـــــــــــــاعْ عندك حد امْن الْــــــــــــــمَ
وكْلامك تِيـﯕـطّـــــــــــــــاعْ ألّا كَلْمَ كَلْـــــــــــــــــــــــــمَ
ثم إن الرجل من هؤلاء لا يثنيه يأسه من لقاء الحبيبة، ولا يأسه من وصلها إن حصل لقاء، عن أن يظل يسعى مستميتا في سبيل تحقيق مرامه، فهو يجوب المسافات الطوال الليلة تلو الأخرى سيرا على الأقدام في ظلام الليل الدامس، معرضا بذلك نفسه للأخطار، وهو على يقين ــ مع كل ذلك ــ من أن مرامه لن يتحقق:
مارتْ عنِّ فَعْــــــــــــــــــــلَ تشْواشِ يَلَعْــــــــــــــــــــــلَ
انْباتْ انْزن اعْــــــــــــــــــلَ رجْلَيَّ في الظَّلْـــــــــــــــــمَ
مانِ واعدْ فَــــــــــــــــــــــلَ ؤُلانِ واعدْ كلْـــــــــــــــــــمَ
وهذا شاعر حساني آخر يحدثنا عن ميماه التي وقع في شراكها، وعن تحايلها على الرجال الذين يرومون منها الوصال، فهي لا ترغب في الحديث معهم، كما أن لقاءها صعب المنال، قصير الوقت، مشبها رائمي وصلها بــ “سلّاختْ مَيْماهَ” الذين لا يحصل لهم إلا وسخ الأيدي، كما في المثل السائر، يقول هذا الشاعر:
مَيْماهَ مخْــــــــــــــــــــــــــزِيَّ واتْخَزِّ بالــــــــــــــــــــــــحَيَّ
ؤُ للَّهُو ابْلا نِـــــــــــــــــــــــيَّ للِّ كاملْ جــــــــــــــــــــــــاهَ
ؤُلا تَبْطَ ملْـﯕـــــــــــــــــــــــيَّ ؤُمتْعَذَّرْ مَلْـﯕــــــــــــــــــــــاهَ
واصْبِيهَ ما يجْبــــــــــــــــــــرْ في الدَّهر إلى جــــــــــــــــاهَ
يَكُونْ الِّ تَجْبَـــــــــــــــــــــــرْ سَلّاختْ مَيْمــــــــــــــــــــــاهَ
أما محمدن ولد سيد ابراهيم، فيكتفي برؤية من يهوى وهو يبتسم، أو بسماع حديثه، ذلك الحديث الذي يتذكر صاحبنا منه كلمات لامست شغاف قلبه من قبل: “انتومات ذوك” و “يكلع بوك” يقول:
كافينِ منْ طَب التُّــــــــــــلاهْ منْ شِ لاهيـــــــــــنِ راد اللهْ
كانْ اظحكْ واللَّ ﯕـال الـــدّاهْ واللَّ ﯕـال انْتومــــــــاتِ ذُوكْ
واللَّ ﯕـالْ الْشقّالْ احــــــــذاهْ انْتَ ما تَسْمَعْ يَـﯕـلَعْ بُــــــوكْ
ويذهب آخر إلى أبعد من ذلك حين يترك السعي في شأن لقاء حبيبته لشدة يأسه من حصوله، فيكتفي بلقاء من لقيها، أوبلقاء من لقي من لقيها، في حال تعذر لقاء الأول، في صورة من أروع صور العفة واحترام طهارة العلاقة بين العاشقين:
عنْ مَلْـﯕـاكْ الّا انْحــــــــــانِ حد الـﯕـاكْ إلى الْـﯕــــــــــــانِ
واللَّ يَلْـﯕ ذاكْ ثــــــــــــــــانِ نَلْـﯕـاهْ امْـــــــــــــــــــن ؤُراهْ
والِّ خاطِ ذاكْ مــــــــــــــانِ مجَّلَّجْ في انْـــــــــــــــــــــراهْ
وآنَ ﯕـاعْ احمــــــــــدتْ اللَّ لا تَمَّيْـــــــــــــــــــــــــتْ إِلاهْ
نَلْـﯕ حد الْـﯕـــــــــــــاكْ وللَّ نَلْـﯕ حد الْـﯕــــــــــــــــــــــــاهْ
ويسجل لنا شاعر حساني آخر ما يراه عزلة راحت تعيشها من تعلق بها الشاعر، حيث لم تعد مرغوبا فيها من طرف النساء اللواتي حسدنها وحقدن عليها حين صرفت عنهن أعين الرجال بفعل جمالها البارع، مع أنها لم تكن تعير الرجال أي اهتمام، فكانت النتيجة أن خسرت الجنسين (النساء والرجال) وعاشت منفردة، في عزلة عن الآخرين:
اكْصَرْتِ ياطبْ التّليــــــاعْ أنْواعْ الغِيدْ, الغِيدْ انــــــواعْ
واعليكْ الرَّجّالَ في اﯕـلاعْ كلْ امْنادمْ منّك مَضْنُــــــوكْ
حَتَّ غيرْ اﯕـبَظْتِ منْجــاعْ بيهْ الناس الْ غيرك بعــدوكْ
ؤُتَمّتْ فَمْ الْهُوَ تُســــــــــاعُ بَيْنكْ زادْ امْـــعَ ذُوكْ ؤُ ذُوكْ
بيكْ احزيمْ الرَّجّال ضـــاعْ عزّكْ بين الغيدْ ؤُ كرْهُــــوكْ
والرَّجّالَ ما ﯕـطُّ ﯕــــــــاعْ طَرفُو لِكْ بالْ ؤلا يلْهُـــــــوكْ
والنّاس اشْبَهْ لكْ تلغيـــــهمْ عنّكْ ﯕـاعْ ؤُهومَ يلْغُـــــــــوكْ
الرَّجَّالَ ما تبغيـــــــــــــهمْ ؤُلعْلَياتْ انْتِ ما يبْغُــــــــــوكْ
هذا الواقع الذي يعيش هؤلاء الشعراء، والذي تمليه ظروف حياة هذا المجتمع الحيي، هو الذي دفع ببعضهم إلى التبجح بأن حيا محبوبته من بعيد، مناديا إياها للفت انتباهها حتى يتمكن من إسماعها يقول هذا الشاعر:
يامسْ حامـــــــــــــــــدْ لَلَّهْ ﯕـلْتْ الْ منت البَيكـــــــــــمْ
يا منت البيكم هــــــــــــاهْ سلامُ عليكــــــــــــــــــــــــمْ
مع أن المعنية ضنت برد السلام على هذا الشاعر لا شك، فلو ردت عليه السلام لكان أولى أن يفتخر بذلك ويتيه، ومعلوم أن تحية شخص لآخر عن بعد وبدون أن يقوم المحيا بالرد لا تجدي عاشقا.
ومما يتجلى فيه طهر وعفاف هذا المجتمع أيضا، كثرة إعراض شعراء الحسانية عن ذكر مفاتن النساء، فالشاعر الحساني غالبا تكون أحاسيسه منصبة تجاه من يحب، فهو لا يلقي بالا لذلك الجمال الحسي الذي طالما تغنى به شعراء الفصحى في نصوصهم الغزلية، كتصوير أجسام النساء وذكر محاسنهن، ووصف لحظات اللقاء، وما يجري فيه مما يخل ذكره بالأخلاق ويخدش الحياء، بل على العكس تماما.
ولعل المطالع لمدونة الشعر الحساني يعترض على ما قدمنا من إعراض الشعراء عن ذكر محاسن النساء ومفاتنهن، فيقول إن التغني بالعيون والأسنان ولون الشفاه في هذه المدونة أكثر من أن يحصى ومنه قول بعضهم:
يَيَوْﯕـِ بعْويْنـــــــــــــــــاتْ لمْنَيَّ واسنَيْنــــــــــــــــاتْ
لمْنَيَّ واشوَيْمــــــــــــــاتْ في امْظاحكْ لمْنَــــــــــــيَّ
واتْـﯕـلَّبْ لَيْدِيّــــــــــــــاتْ بكْلَيْمَ ﯕـصْــــــــــــــــــرِيَّ
وآن فارغْ صَبْــــــــــــــرِ يـﯕـطَعْ بيكْ امْــــــــــــرَيَّ
مـﯕلّكْ تنْجَبْــــــــــــــــــرِ ؤُمَغَيْلاكْ اعْلِـــــــــــــــــيَّ
وقول الآخر:
لا تكْتلْنِ يَا مُولْ الـــــذّاتْ ما شفْتْ اخْدَيجَ يَا الْمَتِيــــــنْ
تَظْحَكْ واتْرَﯕَّدْ لعْوَيْنــــاتْ الملس ؤُمَـﯕـسَمْ تُوجُنِيـــــــنْ
والتغزل بهذه الأعضاء كما أسلفنا أكثر من أن يحصى، لكن جوابنا هو أن هذه الأعضاء لها بعد روحي، أي أن جمالها ذو بعد روحي بعكس الجمال المادي الحسي، الذي يوجد في الأثداء والأرداف… وغير ذلك من الأعضاء التي تزخر بها نصوص الفصحى، وتكاد تنعدم في النصوص الحسانية.
فالعيون والأسنان ونحوها ليست من الأعضاء الجسدية الجنسية، أو على الأقل ليست في مقدمة هذه الأعضاء، وهو ما يفسره كثرة التغزل بها في نصوص الشعراء العذريين من قدماء شعراء الفصحى.
وعموما فإن شعراء الحسانية لم يعيروا أي اهتمام لذلك الجمال الجسدي الذي يهم أصحاب النوازع الحسية الرخيصة، بل على العكس تماما، إن الجمال عند شعراء الحسانية هو تلك الأوصاف التي تتصف بها المحبوبة وإن كانت تعد قبحا ودمامة:
مولانَ عبْــــــــــــــــــــــــدُ في امْنَيْنْ إِتَــــــــــــــــــمُّ
إِرَخَّسْ عهْــــــــــــــــــــــد وإدَفّرْ فــــــــــــــــــــــــمّ
ونختم بـﯕـاف للأديب المرحوم الشيخ ولد مكي، لعلنا نقرأ فيه بوضوح ذلك الحياء والعفة الذين طالما تحلى بهما مجتمع البيظان، والمستمدين من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، يقول الشيخ بعد طلعة طويلة:
ؤُيعرفْ زادْ الْ عنْدُ لَخْبــــارْ عَنِّ بَغْيِ لكْ ماهْ ابّـــــــــــاسْ
ما تَحْرَﯕ بيهْ اجّل النّــــــــــارْ ؤُ لا تَوْكَلْ بيهْ العرض الناسْ
وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه الورقات التي نأمل أن نكون قد وفقنا فيها لإعطاء صورة عن بعض عادات وأخلاق أسلافنا الطيبين، تلك الأخلاق المستمدة من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، والله من وراء القصد.