في أمر السلطة والسياسة اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أيما اختلاف، فتذاوقوا كؤوس المنايا، ولم يبلغ بهم الخلاف حد التكفير، ولا وصل بهم درجة القطيعة النهائية؛ بدليل الصلح الذي أبرمه معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي رضي الله عنهما.
أما نحن فما زلنا نجعل من اختلافاتنا أيام مراهقة فكرية؛ غرستها ظروف، استنبت أغلبها واقع قده أعداؤنا، وغذوه، ومولوه، من دون إرادتنا ولا علمنا، معابد ننافح عنها، ولا ينبغي أن نتراجع عنها...
لقد بنت نخبنا صادقة آمالا على نتائج حرب ١٩٤٨، وتأكدنا أن النصر حليفنا أيام العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٣، وتفطرت قلوبنا لهزائم ١٩٦٧، و١٩٨٢ و١٩٩١ و٢٠٠٣ وغيرها من الهزائم التي تنخر كياننا كل يوم، والتي باتت مثار سخرية العالم بأسره..
يخامرني أحيانا الشك أن الهزائم التي وقعت لمسلمي الاتحاد اليوغسلافي السابق كانت بسبب مشاركة بعض العرب إلى جانبهم، وأن ما تعيشه أفغانستان الآن من بؤس وشقاء وحروب هو نتيجة من نتائج مشاركة المتطوعين العرب.
أجل حكمنا الناصريون في مصر فانهزموا، وحكمنا الماركسيون في اليمن والصومال فانهزموا، وحكمنا الإخوان المسلمون في السودان ومصر وتونس فانهزموا، وحكمنا اللجان الثوريون في ليبيا فانهزموا، وحكمنا البعثيون في العراق وسوريا فانهزموا...
كل فريق منا أسس حركات سياسية وأحزابا وتجمعات فلم يكتب لها الاستمرار، ولا النجاح، وإن رافق أصحابها دائما غرور الرضا عن النفس.
أجل علينا أن نعترف أن العرب الآن مادة إعلامية صفراء، وصورة نمطية مقززة؛ "ربيعهم" لا يتشكل حتى ينقلب خريفا، وعدوهم مطمئن البال، وكل من هب ودب طامع محق في ثروتهم؛ فهاهم متاظهرو الولايات المتحدة يؤكدون أنهم غير عرب، وذاك زعيم كوريا الشمالية يهدد أعداءه بأنه ليس كالعرب...
حين تحاول قراءة تفكيرنا لا تجد خلافا يذكر بين رواده، فإذا ما استحضرت السياق التداولي للأفكار، وتخلصت من الرؤى المسبقة عن الأشخاص؛ ستجد أن حسن البنا وسيد قطب يقفون على نفس الأرضية التي ينطلق منها طيب تيزيني وحسين مروة، وزكي الأرسوزي وميشل عفلق.
ويزداد عجبك أكثر حين تقرأ عن حوارات أجراها المنتسبون للحركات والأحزاب السياسية ضمت مختلف التيارات في السودان أيام ازدهار حكم الإخوان المسلمين له، وفي ليبيا أيام عزة اللجان الثورية فيه، وفي لبنان وسوريا وكانوا يتوصلون إلى أن الخلاف بينهم غير مبني على مسوغات صلبة.
تماما كتلك الحوارات التي تمت بين أصحاب المذاهب والفرق الصوفية في دول عربية وغير عربية؛ بغية الاطلاع على أوجه المشترك بينها، فتنتهي إلى أنه أكثر بكثير من أوجه خلافاتها.
أحمد الله أنني لم أعش هزيمة ١٩٦٧ ولكنني أحترم للذين عاشوها تلك اللحظات السعيدة التي تصوروا فيها انجلاء المعركة عن النصر، وتلك التي عاشوا فيها مرارة الهزيمة، أعرف أنهم كانوا صادقين مع ذواتهم ومحتمعاتهم في اللحظتين، وعلى يقين أنهم تحملوا ما تحملوا من شقاء الوعي، ومسؤولية الالتزام في سبيل النهوض بواقعهم.
لكن الآن هل نبقى في سكرات الوهم؛ نتصور النصر يسيرا والعدو واحدا، ونلوك مواقف الهزيمة، والمشاجب التي عليها علقها هذا الطرف أو ذاك؟ أم حان الوقت ليدرك الجميع أن الخلافات بينهم مجرد وهم من أوهام الهزائم التي عاشوها، وأنهم بإحيائهم تلك الذكريات على أن خلافاتهم كانت محقة إنما يحيون وهم الهزيمة من جديد.
ينبغي في نظري أن نستفيد من سلسلة الهزائم فيتكاتف الجميع لتأسيس أحزاب وجمعيات على أسس سليمة، ويسعون إلى خلق حوار بناء؛ يتجاوزون فيه "ذكر الجفا في أيام الصفا"؛ فتحديات الواقع تفرض ذلك.