لم تغب العلاقة الحميمية بين الموريتانيين والشعر عن ذهن الأخت الكريمة عائدة الشايبي (السيدة حمدي) لحظة اختيار عنوان نصها الرائع الذي تدور أحداثه ببلادنا فنادتهم بأعز الأسماء إليهم .."بلاد الشعراء"، مع أنها لم تأت ببيت واحد من الشعر ولم تذكر الشعراء ولا مجالسهم...لكنها أرادت منذ العتبة الأولى لنصها أن تثبت تمثلها للواقع السوسيو ثقافي لهذا البلد.
ولعل هذا التمثل لم يفارقها منذ دخل هذا الوطن قلبها إلى الأبد حين أقامت فيه أستاذة للفلسفة لفترة بدأت في أواخر سبعينيات القرن الماضي وانتهت في منتصف الثمانينيات منه...آية ذلك هذا الاسترجاع البديع لملامح الإقامة المتبادلة، بينها وبين موريتانيا، والذي يخترق الزمان والمكان ليرحل بنا "إلى" أو "فى" –لا فرق- "بلاد الشعراء"على أجنحة مركب شاعري عجيب عبر محطات تجسد التماهي بين ذاتين شاعرتين جاد الزمان بلحظات حلول صوفي بينهما...
فكان ما كان مما ينبغي أن يكون في مثل هذه المقامات من التحام وسكر تصوره الكاتبة بلغة أنيقة أخاذة مجراها ومرساها عواطف صادقة لطيفة تجيش من كل ذرة رمل وطئتها أو عانقتها شخصيتا القصة الرئيسيتان "مريم" و"جودة" (المدرستان التونسيتان) منذ أن حلتا بنواكشوط فكيهيدي ثم نواكشوط ...وعلى وقع تفاصيل بسيطة نابضة بالحياة اليومية للناس (معطل الحارس، أسواق كيهيدي ونواكشوط، زينب الصديقة المنخرطة في منظمة نسوية، الزملاء في الثانوية من وطنيين ومتعاونين، التلاميذ، الجيران، كتاتيب القرآن...).
وسنحاول في ما يلي أن نحوم حول بعض أوجه الطرافة والإبداع في هذا النص الجميل لعلنا نتقاسمها مع القارئ الذي لا يعرف اللغة الفرنسية أو الذي لا يجد الوقت لمطالعة القصة من البداية إلى النهاية.
***
لم تخل بالطبع عملية الاحتكاك الأول لشخصيتي القصة الرئيسيتين بالمجتمع الموريتاني من بعض التحفظ. فقد تعرضتا لتعليقات من قبيل: "أيتها العربيات عليكن أن تغطين رؤوسكن وسيقانكن، ألا تستحيين من تقليد النصارى". وهي تعليقات لا تمثل في واقع الأمر "علامات رفض وإقصاء" بقدرما تمثل طريقة للتذكير بالقيم المشتركة. فسرعان ما أدركت هؤلاء المعلقات وغيرهن "من خلال التعامل اليومي مع زميلاتهن (الوافدات) أنهن لسن مصابات بالطاعون، وأنهن يعشن ويفكرن بل يعملن غالبا مثلهن "... وهكذا تغلبت على الفور " نقاط التلاقي والتشابه على نقاط الاختلاف "....
وحين يتسنى لمريم وجودة أن تحضرا إحدى جلسات منظمة نسوية بدعوة من صديقتهن زينب، فستدركان من الداخل أن مجال التشابه والتواصل بين المجتمعين الموريتاني والتونسي أوسع مما كانتا تتخيلانه. وستفاجآن بدرجة اطلاع الموريتانيات على مسيرة المرأة التونسية..فعندما انبرت "جودة" المدافعة المتحمسة عن قضايا المرأة، لتنتقد ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع، تدخلت "انجاي" بحدة لتسكتها :"هل تحسبين الأمر هينا إلى هذا الحد...بالنسبة لكن أنتن التونسيات كان الأمر سهلا، لم تناضلن، ولم تعانين..لأن رجلا هو الرئيس بورقيبة منحكن حق المساواة والحرية والمسؤولية...اعترفي بذلك"...
ومن هذه اللحظة تبدأ الخطوات الأولى للالتحام الحقيقي بالمجتمع الموريتاني ليحل فهم الآخر وتفهمه محل ريبة الصدمة الأولى... وهكذا نجد عائدة الشايبي لا تكاد تلامس شيئا من تفاصيل المشهد الموريتاني حتى تتسلل خلسة وراءه لتلمح إلى قيم وفضائل سامية أصيلة ثاوية خلف عفوية القوم وبساطتهم.
وهي بذلك تعبر عن علو همتها ونفاذ بصيرتها وإدراكها العميق للدلالات النسبية للمفاهيم المتعلقة بالثقافة والهوية والتنوع والاختلاف... فهي ليست من قبيل أولئك المتعاونين الذين يحسبون أن مهمتهم تنحصر في البحث عن الثروة المادية "مفوتين فرصة اقتناء أهم ثروة ألا وهي التنوع والتكامل"، فتجدهم يحتقرون الآخر لأنهم لا يعترفون له بحق الاختلاف. بل يرتكبون "حماقة الاعتقاد بأن الاختلاف يمكن أن يبرر كل أنواع التمييز"، ربما لتأثرهم بالمركزية الثقافية الغربية التي لا تعترف بنا إلا أذيالا مستسلمين لها مغلوبين على أمرنا....منخرطين في تيار قيمها المادية القائمة على الأنانية والفردانية وهيمنة أذواقها وأساليب عيشها وأنماط سلوكها...
....وتتوقف الكاتبة عند مظاهر تدل على شغف القوم الكبير بطلب العلم الذي يشكل بالنسبة لهم جزءا لا يتجزأ من الحياة : "فكم هو مألوف أن ترى رجلا... مسندا ظهره إلى حائط، محتميا من حرارة الشمس بأوراق الأشجار الوارفة السخية ...يتحلق حوله أطفال لم يبلغوا بعد سن التمدرس، يعلمهم سورا من القرآن الكريم". فطلب العلم هنا " لا يتم بالضرورة بين أربعة جدران، وفي إطار هيكلي منظم، وبمعزل عن الحياة اليومية النشطة، وإنما في الهواء الطلق ومع الآخرين وسط أصوات الشارع المختلطة، وبذلك الاقتدار البشري الذي يتيح تجاهل كل ذلك والانقطاع عن دواليب الرتابة للانصراف كليا إلى البحث الدؤوب عن المعرفة"...
....وحين تتأمل مشهد التجار وهم ينصرفون إلى الصلاة تاركين بضاعتهم دون حراسة، ترى في هذا الموقف درجة من "الاطمئنان إلى الآخر والثقة فيه" لا نظير لها.. فلا تملك إلا أن تبدي إعجابها بهذا " النموذج الأصيل من الغيرية الذي تحاول المجتمعات التي ندعوها مصنعة أن تقضي عليه"، مؤكدة أن ذلك لن يكون ممكنا لأن "تمترس الناس في منازلهم" لن يحمي لهم حميميتهم ولن يكسبهم الاحترام. و"أهل هذه المدينة الجنوبية"، كيهيدي، " يقدمون البرهان على أنه لا حاجة البتة إلى الاحتماء من الآخر لكي نظفر باحترامه"، وعلى أن "التعرف على الآخر" أضمن لكسب احترامه من " الريبة فيه".
أوليس استصغار الآخر والغض من شأنه ومن التضحيات التي يقدمها في سبيل قهر الطبيعة وتحقيق غاياته منها دليلا آخر على العجز عن التعرف عليه والاعتراف له بالندية؟ : "كم تستسهل الأنفس السقيمة والأنانية أن تحكم بأن شعبا ما يرضى بأن يقبع في البؤس.. كيف نقبل أن نسم باللامسؤولية وبالخمول أشخاصا يصرون على أن يفتكوا من الطبيعة أسباب عيشهم، ويكابدون في سبيل ذلك انتكاسات هذه الطبيعة الكنود ويجابهون على الدوام كل العوائق والإخفاقات دون أن يفقدهم ذلك الشجاعة والأمل"....
إنه الإفراط في اختزال كل شيء في الماديات الذي يعود بدون شك إلى سقم في الذوق وضعف في الحاسة الشعرية، وقصور في التفكير....وهي لعمري علل مهلكة قاتلة لا يسلم منها اليوم إلا القليل ممن رحم ربك، وكاتبتنا من هذا القليل ...
... فها هي ذي بذائقتها الفنية الرفيعة تقلب كل الموازين المادية المعروفة للقيمة والجمال فتتحفنا بريشتها الشاعرة الحالمة، بمقاطع ساحرة آسرة عن مدينة نواكشوط التي افتتنت بأهلها وبأشيائها وبمحيطها "الفردوسي"...إنها "خيمياء" الشعر العجيبة المطواعة وقد تحررت بفعل الحب من كل القيود ...وحق لها ذلك... فضاقت ذرعا بخرسانة المدن الحديثة لأنها "خرسانة تخنق الفضاءات الطبيعية لتوهم الإنسان بأنه تغلب على الطبيعة،" وفتحت قلبها لخرسانة نواكشوط التي " بفعل ما توفره من تلاحم بين الطبيعي والثقافي تحفظ لهذه المدينة الكبيرة تناغما خارقا للعادة لا ينفك العقل البشري يعززه بإنجازاته. فبجوار آخر الإنجازات التي تمثل قمة الحداثة والتكنولوجيا، نجد الطبيعة الحارسة تمنح حقولها الحالمة حتى لأكثر التكنوقراط غراما بالحسابات وصرامتها".
....نعم أيتها المتيمة...رسالتك وصلت...وموريتانيا تبادلك -وتونس من خلالك- الحب...وتفتخر بشهادتك الصادقة بأن "Saint-Expury " كان على حق" عندما سمى هذا البلد " أرض الرجال"... وتبادلك "الشعور الأبدي بالانتماء لأسرة كبيرة واحدة مصدر ثرائها ليس كامنا فقط في تنوعها وإنما كذلك في ما توليه من معنى عميق للقيم..."..
حسنى الفقيه.