الولي الصالح الرئيس سيدي امبارك بن أحمد باب الدميسي السباعي (1853 - 1959) بقلم د. مولاي أدريس البخاري

سبت, 08/08/2020 - 09:51

و سيدي امبارك بن أحمد بابه بن امبارك بن اعلي بن الشيخ المختار بن أحمد بن سيدي امحمد بن ادميس بن عبد الوهاب بن عبد المنعم بن سيدي عمارة بن إبراهيم بن اعمر بن عامر الهامل المكنى بأبي السباع الجد الجامع للشرفاء السباعيين.

ولد سيدي امبارك حوالي سنة 1853م، وتوفي سنة 1959م. نشأ يتيما في بيت عمه محمد عبد الله بن امبارك بن ا
علي بن الشيخ المختار الدميسي السباعي لأن والده توفي عنه وهو صغير، ولما بلغ من العمر عشر سنين أرسله عمه إلى الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل المشهور ليأخذ عنه العلم والمعرفة، فسافر به شيخه إلى الصحراء الغربية، وظل معه لمدة تزيد على الثلاثين سنة، أخذ عنه فيها علم الفقه والسيرة النبوية والنحو والبلاغة، وعلوم القرآن وأسرار الحروف، وزوجه من إحدى بناته. ولما ظهرت فيه كثير من الأمور العجيبة جعله شيخه أمينا على بيته وخزانته، وكان يخرج معه في بعض رحلاته، وأحيانا يتركه أمينا على بيته حتى يرجع، في هذه الفترة المهمة التي قضاها مع الشيخ ماء العينين أخذ عنه فيها إلى جانب العلوم الدينية كثير من المعارف السياسية والعسكرية، وتعلم منه السياسة الحكيمة والمبادرات النادرة.
ثم رحل إلى قبيلته أولاد أبي السباع في الجنوب، ويقال إنه لما أراد الرحيل حاولت مجموعة من القبائل الشمالية منعه من ذلك غير أنهم ضلوا في واد، ولم يعرفوا طريقهم، فاستقبله أبناء عشيرته (الدميسات) بحفاوة بالغة وسرور عظيم، وكان يقودهم آنذاك الحريطاني بن امحمد بن اعلي الدميسي السباعي الرئيس البطل الشهير، فتنازل له عن قيادة العشيرة، فتولى قيادتها بحنكة وحكمة، وكانت قبيلة أولاد أبي السباع آنذاك تخوض معارك طاحنة مع بعض القبائل، فقام بتوحيد أبناء جلدته وجمع شملهم، وحكم فيهم بوصفه قاضيا وحاكما لما عرفوا عنه من التقوى والصلاح والكرم والعدل.
قام سيدي امبارك بعقد صلح مع السلطات الاستعمارية الإسبانية تخول له ولقبيلته التحرك في الصحراء الغربية للظعن والانتجاع بحرية كاملة، كما كان لهذا الصلح منفعة للقبيلة حيث استفادت بموجبه القبيلة من بعض الامتيازات والمساعدات التي كانت توفرها السلطات الإسبانية.
لعب الشريف سيدي امبارك بن أحمد بابه دورا بارزا في مكافحة الإستعمار وظل يحارب المستعمر بالسيف والقلم، ويحمي المقاومين والمجاهدين ويؤويهم ويزودهم بالسلاح والزاد وعلى رأسهم المجاهد إسماعيل بن الباردي الرقيبي، ورفض الصلح مع المستعمر مما جعلهم يستدعونه من حين لآخر، ويذكر بعض الرواة أن ضابطا كان ينوي ترحيله من البلاد ونفيه إلا أن ظروف ذلك الضابط لم تسمح بذلك نتيجة التدخلات القبلية، كما أن رئيس مركز بوتلميت العسكري كان ينوي سجنه في فرنسا وطلبه لنقله بالطائرة غير أن تلك الطائرة تعطلت مما بعث الحيرة في نفس الضابط، وأخافه، فما كان من ذلك القائد إلا أن قدم إليه بعض المساعدات المادية والهدايا العينية فعاد إلى قبيلته منتصرا فاستقبلته استقبال الأبطال.
ويذكر كذلك أن رئيس مركز أكجوجت العسكري الفرنسي الأصل جاءه وقال له: نريد أن نقدم لكم طبيبا يخدم القبيلة، ويسهر على صحتها، فرد عليه: عندنا طبيب ممتاز وماهر إنه "الجوع"، فانبهر القائد وحياه ورجع. ولما أرادت فرنسا حماية الساحل الموريتاني رفض ذلك، وقال لهم: نحن حماة الساحل.
رفض سيدي امبارك تعليم أبناء القبيلة في مدارس المستعمر، وظل يعلم مبادئ الإسلام والعلوم الشرعية لأبناء القبيلة والقبائل المجاورة، وكانت له خزانة كبيرة من الكتب يحملها على الجمال في تنقلاته ورحلاته لا تفارقه.
كان للشريف سيدي امبارك بن أحمد بابه دور بارز في جمع ولم شمل القبيلة بعد التشتت الذي أصابها نتيجة الحروب والفتن التي كانت تقع بينها وبين بعض القبائل لأتفه الأسباب، فوحدهم و"كاتب" لهم في مركز أكجوجت خوفا عليهم من الاندثار والتشتت. كما قضى على بعض الفتن الطائفية والعشائرية التي كانت ربما ستؤدي إلى كارثة، فعمد إلى إرساء عهود ومواثيق اصطلحت بموجبها القبيلة مع القبائل المجاورة، وكان يقضي على تلك الفتن بنفسه قبل تدخل المستعمر، وكانت له اليد الطولى في ترسيخ دعائم السلم والعافية في منطقة الساحل نتيجة لهيبته وقوته في اتباع الحق.
رفض تسليم سلاحه للمستعمر وظل يحتفظ به هو وأبناء قبيلته لذلك كان يصلي دائما مقصرا لأنه مجاهد في سبيل الله وقدم رجاله فداء لذلك، كما أنه أعان بعض المهاجرين بالرجال والسلاح والمال، ويذكر الرواة أنه كان يجهزهم بماله الخاص للذود عن الدين والوطن.
كان سيدي امبارك رضي الله عنه رجل الدين والدنيا، ورعا، تقيا، وكان وليا من أولياء الله جمع كل العلية، وكان قوي البنية متين الجانب، قوي في الحق يهابه كل من رآه، وكان لا يقابل أحدا إلا وأخضعه الله له، ومن ذلك أن النصارى كلما قابلوه قدموا له التحية بجميع رتبهم الصغيرة والكبيرة على حد السواء، وكان شجاعا في الحروب ويقود الحملات وله خطط عظيمة فيها.
ويذكر الرواة أنه أرسله الشيخ ماء العينين إلى ملك المغرب، وكان الملك يرسل للشيخ ماء العينين كل سنة سفينة محملة بالسلع والمؤن، فلما قدم عليه سيدي امبارك أعطاه ما يريد ويزيد على ضعف السفينة.
ومن ورعه وتقواه أنه لا ينظر إلى المرأة أبدا ولو كانت أخته من الرضاعة ولا تسلم عليه إلا من خلفه، وكان يطلق المرأة وتبقى عنده في البيت حتى تنتهي عدتها.
يقال أن جماعة من تلاميذ الشيخ ماء العينين احتجوا عليه في إعطائه لسيدي امبارك الكثير من السر والحكمة، فأمرهم أن يحلبوا له ناقة فلما حلبوها قال لهم: ردوا لبن الناقة إلى ضرعها، فقالوا: من أين لنا ذلك؟ فرد عليهم: أنا مثلكم فمن أين لي أن أرد ما أعطيته لسيدي امبارك؟ وحلف لهم بأنه علمه جميع أسماء التمكين ما عدا اسما واحدا كنت لا أريد أن أعلمه إياه، فلم يزل بي حتى أخذه مني.
كان سيدي امبارك يحمي الضعفاء والمساكين، ويخرج لهم من ماله نصيبا يوزعه عليهم كما أنه اتخذ خيمة مسجدا وجعلها للضيوف والزوار وأبى دخول المحارم على عياله وسكنه وحشمه، وجعل ذلك سنة لابنه محمد الإمام، وهذا أمر صعب في البادية نتيجة لظرفها القاسية.
سلك سيدي امبارك مسلكا حكيما في التعامل مع القبيلة، فكانت كثيرا ما تظهر مشاكل اجتماعية صرفة يصعب التعامل معها غير أنه كان رضي الله عنه غيورا على مصالح القبيلة وأهدافها، فكون فيهم الروح المعنوية والأخوية والتعايش السلمي الشيء الذي أعطى ثمارا طيبة مازالت قائمة حتى اليوم، كما أنه وحد القبيلة ورسخ فيها مبادئ الوحدة والأخوة والتعاون البناء.
تعمق سيدي امبارك في الكتب الدينية وكان دائم النظر في الكتب، فتعمق في عدة كتب عملاقة مثل: شمس المعارف الكبرى للسيوطي، وإحياء علوم الدين للغزالي، والتحفة للبيضاوي إلى غير ذلك من الكتب القيمة، وقد ساعده في ذلك اختلاطه مع الشيخ ماء العينين الذي كان عالما وكان يحبه حبا شديدا، والعجب في الأمر أنه بلغ من العمر غتيا ولم تظهر عليه علامات الشيخوخة، فكان ينهض ويقوم بالأعمال بنفسه حتى في الأسبوع الذي انتقل فيه إلى جوار ربه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
إن الحديث عن سيدي امبارك حديث شيق مليء بالتضحية والجهاد، وهذا قليل من كثير من سيرته وأعماله التي سوف يظل يتداولها جيل بعد جيل لما تحمله من قيم سامية وأهداف نبيلة.
سيدي امبارك الرجل الذي ملأ الدنيا بالحق والكلمة الصادقة وليس من مترجم لذلك إلا الشعر الذي مدحه به بعض الشعراء وهذا هو الآخر يعتبر قليلا من كثيرا إذا ما قيس بما حققه وانجزه على مدى 105 سنين كلها جهد متواصل في سبيل إعلاء كلمة الله وتحقيق أهداف مازالت قائمة حتى اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: هذه النبذة زودنا بها حفيد المترجم وسميه سيدي امبارك (ديدي) بن محمد الإمام بن سيدي امبارك الدميسي السباعي وقد تصرفنا فيها قليلا حسب الضرورة.