لو كان في النظام الجمهوري الذي تتبع شعوب العالم الثالث، ونحن منها، نسخته المعدلة على مقاساتها، لو كان فيه منصب أعلى من رئيس الجمهورية، لتلقى، غدا بعد خطاب الغزوانى في قصر المؤتمرات( المرابطون) سيلا جارفا من الخلاصات الإستخبارية (BR) تتفق كلها على أن الرئيس بات من المعارضة، لأن الرجل
في الواقع، أقى، ولكن بأسلوب من يملك الأمر وطريقة التعبير اللائقة بشرعية الفعل والترك، خلال ترؤسه لحفل تخرج دفعة هي الأكثر عدا وتنوعا، في كل تاريخ المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء...
لقد ارسل الرئيس، خلال كلمته بتلك المناسبة، تلميحات موجعة، كانت أبلغ من التصريحات، تتعلق بمفاسد تنخر ميكانيسمات الإدارة، وكل مفاصل السلطة والدولة، عبر هو عنها بالخلل، مشيرا، لأول مرة، منذ تقلده مأمورية اجتازت المنتصف، إلى وجود "عجزة" في كل تقاطعات السلطة، مقترحا عليهم، في أسلوب تربوي غاب طويلا عن الرسميات، أن يغادروا مواقعهم تلك طواعية، ويتركوها لمن هو أجدر وأقدر ، وهو اقتراح تم البدء البوم في الاستجابة له، طوعا أو كرها، حين قدم الوزير الأول ولد بلال إلى الرئيس استقالة فريقه الحكومبي...
اللافت أن وخز تلميحات الرئيس. واقتراحاته لم يكد يتوقف، حتى غطت بيانات ومذكرات عمل رسمية، واجهات الإعلانات والمنشورات، على جدران الإدارات والشركات والمؤسسات، ومكاتب أغلب الدوائر الرسمية، ثم و بالصوت والصورة، طافت على مواقع الإخبار ومنصات البث المباشر، وحسابات وصفحات التواصل الاجتماعي، وهي تعلن عن إجراءات جديدة لتسهيل معاملات المواطنين، واعدة بعهد من "إنصاف" المراجعين وخدمتهم بكل تفان، مع وقف كل التدابير العقابية السارية ضدهم، عند الاقتضاء...
الواقع أن الأمر يتعلق بسباق مألوف، قد توالت أشواطه العبثية طويلا، في ظل شتى النظم ، وتحت عناوين عريضة، ثابتة ومتغيرة، أبرزها: "تنفيذ تعليمات سامية لرئيس الجمهورية" وقد أحرزت السبق في طبعته الجديدة، جهات عدة تتقدمها وزارة الصحة ومراكز ها الرئيسية، ثم شركتا الماء والكهرباء، ومصالح الأمن الوطني، ومراكز وكالة الوثائق المؤمنة؛ والحبل هو على الجرار، في القطاعات الرسمية وشبه الرسمية، ليس بالضرورة بغية المساهمة فى نقلة إصلاح جذري، طال ترقبها وانتظارها، بل ربما من باب: "إذا قالت العرب بيس، فقل بيس"...
الشاهد العدل على ذلك، أنه وباستثناء استقالة الوزير الأول، فإن من يفترض على نطاق واسع أنهم معنيون بتلميحات الرئيس، وباقتراحاته بالاستقالة الطوعية للعاجزين عن نهج الإصلاح المنشود، لم يستقل منهم أحد، بعد، وربما لأنهم يحاذرون فهم استقالاتهم، إن تمت، في إطار الاعتراف العلني بعجزهم، وهو أمر لا يمكن أن نتصوره ممن مردوا على الفساد في كل عهوده المتتالية؛ ولا بد أن المفسدين خاضوا معارك نفسية حول منطقية، أو لا منطقية الاستقالة، لكنهم نسوا أن البيانات و مذكرات العمل التي وقعوها، بما حملته من وعود بإصلاح وتحسين الخدمات، وسد الخلل في المصالح التي بين أيديهم، تشكل إقرارا بأن الاختلالات التي ألمح إليها الرئيس، تستوطن المؤسسات والدوائر الخاضعة لمسؤولياتهم المباشرة، ومن ثم فإن الإقرار بالعجز ومطلب الاستقالة طوعا، قائمان في الحالين معا...
تسألني من المرشحون للاستقالة، طوعا، إنهم كل موظف سام أقام الدليل على نفسه، طيلة نصف المأمورية، بعجزه عن ترك مألوف فساد العقود، وهو إن لم يستقل طوعا، فإن البديل هو الإقالة والإبعاد؛ قبل تحرك القاطرة، فإذا ما تحرك قطار الإصلاح، ونحسب ونأمل أن ساعة تحركه قد أزفت، فلا مكان في مقاعده للعجزة؛ ذلك ما تشير إليه بعض إيحاءات رسالة إشراف الرئيس على تخريج تلك الدفعة، فعليها ومثلها تعقد الآمال العراض، حيث استكتبت للتكوين وخضعت له بعد أن دال عهد العشرية وسباقها، وعقد الناس عليها أملهم في القطيعة مع ماض كريه من الفساد وممارساته المخجلة.
إقالة الحكومة تجد تبريرها في خطاب الرئيس ومضامينه، فأعضاء الحكومة المقالة، كانوا هم الأقرب إلى الرئيس وهو يلقي خطاب تخرج الدفعة، وهم أدرى من غيرهم بأن الفساد ما زال ضاربا أطنابه في مفاصل الدولة، كما كان، وهو أمر دأبنا على ترديده وتكراره، مقارنا بحجم الآمال التي عقدناها وآخرين، معنا منذ البداية، وما نزال، على الرئيس الغزواني، آمال يغذيها يقين بأن القطيعة مع الماضي، بكل ممارساته، شرط لا غنى عنه، لأي عملية إقلاع ناجحة؛ وكان من عدل الله وفضله أن جاء الوقت الذي تولى فيه رئيس الجمهورية نفسه إعلان تلك الحقبقة من أعلى سدة في الدولة، ومن الطبيعي ان تختلف طرق التعبير بين من يملك مشروعية السلطة وهو صاحب الأخذ والرد، ومن يملك رأيه وقلمه. فحسب، ثم يظل التعبير عن ذات الشيء، هو هو....
في انتظار التشكيلة الوزارية المرتقبة، فإن الحاجة ماسة إلى التساؤل عن الحصاد المر لنهج المحاصصة المتطاولة بين الجنرالات والزعامات والقبائل والجهات والثقافات والألوان..؟! يليه سؤال عما تحقق من تعهدات ووعود وبرامج ومبادرات رئيس الجمهورية لإقامة أسس تنمية عادلة مستدامة وعن الموانع التي حالت دون الإنجاز...؟! وأخيرا فإن التساؤا الأكثر الحاخا، هو إلى متى نستمر في الضحك على عقولنا بتكرار التجربة الفاشلة، بالمقدمات نفسها، ثم ننتظر نتيجة مختلفة..؟!