جمال ولد الحسن
الذكرى الحادية والعشرون.. ومتى نسينا العهد حتى نذكرا
بين الجانب الغربي من “تنيخلف” من حيث بالغاب استَكفَّ العرا، وبين “بقاس”، منتهى إيكيدي، ومبتدأ العقل، كان الحي من “أولاد سيد الفالِ”، يتنقل ليستقر بالبتراء “التاگلالت” ، حيث المحاظر راسخة القدم في العراقة، وحيث أخلاق أهل إيكيدي يحملها الرجال وتغزلها النساء للنشء.
محمد عبد الله ولد الحسن، أديب و سياسي مخضرم، ولد في المذرذرة عام 1918 وتلقى تعليمه المحظري في محظرة جده سيدي ولد محمد، وفي محظرة جده أحمد ولد ابن عبدم، و تلقى تعليمه النظامي في بوتلميت سنة 1934 وأكمل دراسته سنة 1939 ليعين مدرّسا للغة الفرنسية “ببوتلميت” سنة – 1940 ثم عمل مترجما في عدة أماكن من المنتبذ القصي.
ثم عمل بالإدارة المركزية “باندر – سينلوي”، ثم انتخب نائبا في أول جمعية وطنية سنة 1957 عرف بالحكمة والتوثيق والضبط والخطابة، وكان دبلوماسيا من الدرجة الأولى، حيث لعب دورا مهما في سبيل نيل الاستقلال، وبعد الإستقلال عمل مستشارا بالرئاسة، ثم أمينا عاما لعدة وزارات، فمكلفا بمهام في الرئاسة، ثم عمل في السلك الدبلوماسي فى عدة بلدان عربية وإفريقية، معرفا بموريتانيا، حاملا قضاياها.
وعين سنة 1967- سفيرا لدى إفريقيا الغربية، ومقرها في داكار حتى تقاعده سنة 1970.
في منتصف سنة 1959 وفى أمسية من أماسي البتراء الحالمة، رزق محمد عبد الله من زوجته حاجه بنت ابن عبدم بطفل وديع، سماه “أحمدّو” ، وكان نجم الزعيم جمال عبد الناصر لامعا، وصداه يتردد في البلاد العربية بعد حرب السويس وتأميم القناة، فلقب الطفل “جمالا”.
عاش جمال في كنف أبويه، و درس القرآن في محظرة أهل سيدي، وكان بادي الذكاء، ثاقب الفكر، تلوح على محياه علامات النبوغ والنباهة، ودرس مبادئ الشرع، ودخل المدرسة الابتدائية في المذرذرة، فكان ظاهرة فريدة.
حصل سنة 1971 على شهادة ختم الدروس الابتدائية بتفوق، وبمعدل كبير، فذهب إلى نواكشوط، وهناك درس الإعدادية، ولفت الأنظار ذلك الفتى الحدث، ضعيف البنية، الذى تشعّ عيناه ذكاء.
كان يكتب الشعر البليغ في جريدة الشعب، وكانت الإذاعة الوطنية تبث مقالاته وأشعاره، ونبغ في الشعر الشعبي “لغن”، فكان “يكَاطع” أباه محمد عبد الله، ولمّا يبلغ العاشرة.
حصل جمال على الشهادة الإعدادية سنة 1973 وسنة 1976 حصل على شهادة البكالوريا “الثانوية العامة”، وكان ترتيبه الأول على مستوى موريتانيا، فمنح إلى تونس، وبعد خمس سنوات في الجامعة التونسية، حصل على شهادة التبريز في اللغة والأدب بتفوق أذهل أساتذته، وحصل على وسام التفوق الوطني من رئيس الجمهورية التونسية عام 1981.
رأس قسم اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة في نواكشوط 1981 – 1984، وعمل أستاذًا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، والمدرسة الوطنية للإدارة بنواكشوط.
في سنة 1987 حصل من الجامعة التونسية على دكتوراه الدولة في الأدب العربي، ونالت رسالته “الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري – مساهمة في وصف الأساليب” تقدير “مشرف جدا” مع توصية بطباعتها.
عمل جمال أستاذًا في كلية الآداب – جامعة نواكشوط، ورأس تحرير مجلة حوليات الكلية، وعمل رئيسًا لقسم الترجمة واللغات الحية في كلية الآداب – جامعة نواكشوط ما بين عامي 1988 و 1990، وما بين الأعوام 1990 و1996 عمل أخصائي برامج، بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو ) في الرباط، كما عمل خبيرًا بإدارة الثقافة في المنظمة نفسها، وعمل مندوبًا للمنظمة نفسها ما بين 1997 و1999،وعمل مدرسًا في معهد تكوين مدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها في مدينة تمبكتو يقول:
يعگب بعد الحادث يگبلْ :: عنّو لعگوبَ جاهلتو
هذانَ نشرب لبن البلْ :: فاعزيب افسهوتْ تمبكتو
وفى جزر القمر، وما بين عامي 1999.
و2001 عمل أستاذًا في جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا “فرع العين”.
حين عاد جمال من تونس إلى المنتبذ القصي، عاد يحدوه طموح لاحدود له لتطوير الدرس الأكاديمي، ودفع البحث العلمي في منتبذ يعتبر منجما من التراث الديني العريق والثقافة، وله إرث علمي وثقافي مطمور، في المخطوطات المهملة، في مكتبات أهلية.
فعمل على جمع وتحقيق ونشر تلك الكنوز من المعارف، فنفض عنها غبار النسيان، فجمعت وحققت بطرق و أساليب حديثة.
وعلى الصعيد الآخر، نهض جمال بأعباء التدريس، فعرفت قاعات الدرس الأدبي لأول مرة في المنتبذ القصي، العلوم اللغوية واللسانية الجديدة، ومناهج التحليل الأسلوبي المعاصرة.
يقول صديقه الدكتور السيد ولد اباه عن شخصيته .. إنها شخصية متميزة مركبة، جامعة بين خصال قل امتزاجها في الأفراد العاديين، ومن هذه الخصال قدرة خارقة على الحفظ والاستيعاب، مكنته ـ على طريقة العلماء الشناقطة الأقدمين ـ من حفظ أساسيات التراث العربي الوسيط، متونا ونصوصا ودواوين شعرية، حتى ولو لم يكن انتظم إلا في فترات متقطعة في حلقات التعليم المحظري، أي الدراسات التقليدية المحلية التي توفرها المؤسسات الأهلية المسماة المحاظر.
تنضاف إلى هذه الخصلة، ذاكرة حادة لا تنسى أدق التفاصيل، ولا تفوتها جزئيات الأمور، وقدرة غريبة على البناء والتركيب، وإبداع الاطروحات والنظريات التحليلية، واستثمار النصوص والمعطيات، في بلورة النماذج البرهانية المحكمة الدقيقة، بما كان يثير دوما اعجاب الدارسين، ويرضي فضول المؤرخين والباحثين في حقل الانسانيات اجمالا.
وإلى جانب تكوينه التقليدي الرصين، استطاع الفقيد التسلّح بثقافة حديثة قوية، بفضل اطلاعه الواسع على الكتابات الفكرية الاحدث، التي كان يتابعها بانتظام، ويحرص على اقتنائها في لغاتها الأصلية، فتظهر آثارها في أعماله ويستبطنها أسلوبه في الكتابة، الجامع بين وضوح الرؤية ودقة العبارة وجمال الإشارة.
وترك الفقيد ورشات علمية عديدة، ومشاريع بحثية تقدم بعضها خطوات كبرى، ولا شك أن الثقافة الموريتانية والعربية إجمالا بحاجة الى استكمالها.
من آثاره:
وأسلوب الشاعر محمد بن الطلبة اليعقوبي
والشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري
تحقيق ودراسة كتاب التكملة في تاريخ إمارتي البراكنة والترارزة
تحقيق ودراسة كتاب ضالة الأديب
خواطر حول عينية الشاعر سيد محمد بن الشيخ سيديا
ومظاهر الوعي القومي عند مثقفي بلاد شنقيط في القرنين 18 و19
والنقد الأدبي في بلاد شنقيط
وبلاد شنقيط ودورها في العلاقات العربية والإفريقية
وتطور صورة الفرنسيين في خيال الموريتانيين
كان جمال رحمه الله إلى جانب موسوعيته العلمية متواضعا دمث الأخلاق، سريع البديهة يمتلك روح الدعابة، له مداعبات مع الإمام بداه، والعلامة عدود، و العلامة اباه ولد عبد الله، و العلامة حمدا، والعلامة محمد الحسن ولد الددو، ذكرنا البعض من ذلك في مقالات سابقة، وله مداعبات مع أصدقائه وطلابه.
مر الأديب محمد ولد هدار والفنان سدوم ولد أيده، في طريقهما على سيدة تبيع ” بَنْيَ ”
قال ولد هدار لسدوم .. “سدوم إشْريلِ بنيايَ لِياسِرْ عنْ نَوكَلْ بنْيَ “
قال له سدوم .. “هاذ مكَلع
لقيا جمال فأخبراهُ بالمكَلع فقال على الفور:
لاهِ فيكْ انركَّـبْ غايَ ::عودْ امعايَ متبيظنْ يَ
سدوم إشْريلِ بنيايَ :: لِياسرْ عنْ نوكَلْ بَنْيَ
وكان مرة يحدّث طلابه عن ورود اسم الفاعل فى اللهجة الحسانية بصيغة المبالغة،
وقال مثل وكّالْ وشرّابْ، ووكَّافْ.
فقال أحد الطلبة ومثل “حرّاگْ”
فقال حمال ببداهة ومثل “دَصَّارْ ” ، إنها كثيرة ..
مرة سأله أحدهم بحدّة، ماذا تُدّرس ؟
فأجاب بهدوء : أُدرّس الأدب
يقول العلامة ڭراي ولد أحمد يوره رحمه الله:
إني أقولُ وفي المقالة صادقٌ :: وأنا مِن القالينَ قيلَ وقالا
ما زلتُ أبحثُ عن جمالٍ للشبابِ فعزَّني ، حتى لقيتُ “جمالا”
وعما تبقى من حميد خصاله :: أرى الصمتَ أولى بي من أن أتكلما
گِلْتْ اللًهْ أعْطِيهْ أبَديـهْ :: النًعِيـمْ إلًِ مَـاهُ بُهْـتْ
إلًِ مُنْتْ الرًاضِي وَأعْطِيهْ :: الرًحْمَه والجًنًه ، وِاسْكِتْ
فى يوم 18 مايو 2001 فجع الجميع برحيله ، ووقع علينا الخبر كالصاعقة فلم نعرف كيف نؤبّنه، ولا من نعزي فيه، ولا من يعزينا.
يقول محمد الحسن ولد الددو:
قدر الله بالقبول يُلقّى ::لو أتى فجأة وأنكى وشقا
أجمال الأجيال علما ودينا :: وهدى راقيا وخلقا مرقى
ملء عين الزمان والسمع فينا :: كنت فالرزء فيك كان أشقا
من أعزى فى أى وصف أعزى ::ماأوفيك فى المجالين حقا
أأعزى ثقافة العصرأم ماورث الأقدمون مماتبقى
أم أعزى الحروف حرفا فحرفا :: أم أعزى الأوراق رقا فرقا
أم أعزى الآداب والنثر والشعر إذا راق في الندىّ ورقا
أم أعزى الأنام اذ لست أدرى:: أيهم كان بالتعازي أحقا
رحل صلتَ الجبين، أبيا حين انبطح الكبار
يقول عنه زميله الخليل النحوي:
أترحل هكذا عنا وتطوي :: كتابك والصحيفة واليراعا
وعلما كم سقيت به ظماء :: وفهما كم غذوت به جياعا
ووجها ضاحكا طلقا بشوشا :: وكفّاً بَضّة ويدا صَناعا
وسمتا في الهدى سمحا سديدا :: قويما، لا اعوجاج ولا ابتداعا
أترحل هكذا عنا وتطوي :: حديثا لا نمل له استماعا
وقولا في بساط الحق فصلا :: وسعيا صالحا وندى مشاعا
وتطويحا بآفاق المعاني :: وقنصا للشوارد وافتراعا
هوت هامُ الرجال وظَلـْت شهما ::نقيا طاهرا ندبا شجاعا
تشع سنى على وطن عزيز:: أضاع فتى، وأي فتى أضاعا
الناس لا ينصفون الحي بينهم :: حتى إذا ما توارى عنهم ندموا
ونختم ختاما مسكا بما قاله الدكتور العلامة محمد المختار ولد اباه في تقديمه لمراثي المرحوم جمال:
“وقد جعلتني وفاته فى حيرة مما أقول، فكلما ذكرته أو فكرت في أمره، أجد نفسي فى وضع من يحاول أن يستشف بعض أسرار حياته ووفاته، من هذه الأسرار ما قد باح هو به لبعض أصدقائه تصريحا، وأشار إلي ببعضها تلميحا، لكنه احتاج أن يدونها فى قطعة رائعة، كتبها بيده وأخفاها فى بعض كتبه، ووضع بعدها إشارة تنبه أن الكتاب لم يكمل.
وكما قيل:
فإن رواية الأحباب بدء ::على عود وما كمل الكتاب
وما يخبرك عن خُلق الليالي :: كمن فقد الأحبة والصحابا”
كامل الود