عرفت الفتى الشيخ محمد فاضل ولد الشيخ يحيى يوم حل بالعاصمة نواكشوط، بشهر لم أعد أذكره من سنة 1974 قادما من منطقة بوتيلميت، وقد تخرج من محظرة والده الأديب الشاعر، والفقيه المتصوف الشيخ يحيى ولد عبد الدايم.
كانت سنة مميزة بكل المقاييس، ومميزة للعاصمة نواكشوط، فقد اتقدت جذوة الحراك ثقافي والتعليمي بشكل قل نظيره، إقبال على دور العلم من مدارس نظامية وأهلية، ومراكز ثقافية وتعليمية، وشباب يطلب العلم حثيثا بكل زاوية رغم الظروف الصعبة وشح المراجع وموجة الجفاف ...
أذكر أنه في هذه السنة أيضا، كان قدوم جهابذة من بناة صرحنا الثقافي والإعلامي والأدبي المعاصر، من أمثال متنبي شنقيط، الشاعر والمفكر ناجي محمد الامام، والأديب الإعلامي الدده محمد الأمين السالك .
ناجي، الذي كنت أرقبه عن بعد وقتها،متأثرا ومأسورا بملامح الفتوة والنبوغ الباديين على محياه الكريم، والذي ستربطني به لاحقا علاقات وطيدة كلها احترام وتقدير ورفقة في دروب النضال الشريف...
والدده، الذي حظيت بمعرفته وقتها، إذ استضفته في بيتنا وكان والدي رحمه يحبه ويقدره أكثر منا، لما لاقى فيه من مكنون العلم فقها وأدبا، فضلا عن الأخلاق الراقية التي يتصف بها وقل من يتصف بها في ذلك الزمن، هذا عن التآلف والانسجام الذي بدا بينه وبين أخي الحضرمي الداهي رحمة الله عليه.
في هذاالجو المفعم بهذا الزخم الثقافي والعلمي، أخذا وعطاء، عرفت الشاب الأسمر، الشيخ محمد فاضل، واقتربت منه أكثر، وخلونا لكاسات شاي، نتعاطى فيها من العلم والثقافة والأدب ما نشاء، فآلفته شيخا مربيا ومعلما بجدارة واقتدار، ولا يقطع ذلك التآلف إلا مزاحمة الكبار، من أمثال والدي وأقرانه، الذين لا يملون حديثه وحكايته، فلا يبقى لنا من الوقت إلا ما أعياهم سهره ...
كنت إذا أخذنا المجلس أجد نفسي مجهدة وأنا ألاحق هذه المعارف المتعددة والمواهب المتباينة، فقد اجتمع في الشيخ محمد فاضل من فنون العلم وصنوف الأدب وحلو الحديث، ما لم يجتمع في غيره، كل ذلك مع ما حباه الله به من أخلاق فاضلة، ليست بدعا على مثله ممن تربى وترعرع في زاوية شيخنا الشيخ يحيى ولد عبد الدايم، حيث التربية الدينية النقية، والتربية الصوفية التي تحرر النفس من مقام النفس الأمارة إلى النفس الكاملة بالذكر والتوجيه، والصبر والعبادة، فضلا عن العلوم الشرعية والأدبية التي ترافقك من أول خطوة ...
وعلاوة على المخزون الثقافي والعلمي لدى الشيخ محمد فاضل، كانت تتملكه ذائقة فنية مركوزة في النفس، تترجم روح الجمال في أرقى صوره ...
فهو أديب إذا كتب، وشاعر إذا أنشد، وناقد إذا أبصر ...
يقطف المعاني كما يريد، بسهولة وسلاسة، فتراه يأخذ الكلمات والعبارات من قطوفها الدانية دون عناء وكنأنها تأتيه طوعا في تناغم وتناسق قل من من يحظى به.
وهو فنان إذا رسم الحرف أتاه طواعية بالطريقة التي يريد، فلا تكون الكلمة أحسن من الخط، ولا الخط أحسن من العبارة، لتتشكل أمامك لوحة فنية رائعة الشكل والمضمون، ومكتملة البناء الفني في كل أبعاده ...
وهو مؤرخ وباحث، يتسم بحثه بالعمق في التحصيل والغزارة في التجميع، والأمانة في التأليف، والعلمية في الاستنباط، فقد كان تأليفه "أبناء أبي السباع: حقيقة وآثار" من أمهات الكتب الجادة التي يرجع إليها ويعتمد عليها، فوق أنها إثارة تاريخية حقيقية وتوطئة، يستأنس بها كل باحث أو مهتم بتاريخ التراث الأجتماعي ...
وهو فوق هذا كله، فتى بالمفهوم الاجتماعي السائد، فتى في مجالسه، وفتى في خلواته، اتسم سلوكه بتفاصيل مدرسة أبيه الشيخ يحيى، فتراه يجيد "لغن" دراية وتطبيقا بكل صنوفه وفنونه، بل إنه ألف فيه ما يعتبر من أحسن التآليف وأعمقها، ونتبين ذلك من كتلبه "لمشامل" الذي ضمنه دراسة مستفيضة من "لغن وأژوان"، ومارس تلك بالتطبيق في برامجه الإذاعية، حتى صار عميد الأدب الشعبي خليفة للعميد محمدن ولد سيد ابراهيم بجدارة واقتدار ...
ثم أنت تراه شيخا صوفيا ذائبا في أوراده، قانتا في صلواته، ذائقا من أسرار الصوفية ما طاب له، ممارسا لطقوسها في هدوء ووقار، يمعن في الأسرار، ويأخذ بالهمة في الدعاء، ويعقد العزم بالحصول ...
حقيقة، لست أدري، في أي حانب أتكلم عن أخي وزميلي الشيخ محمد فاضل، فقد تكاثرت الظباء على خراشٍ، فما يدري خراش ما يصيب!...
فقط، استحضرت هذه الخواطر في هذه المقالة المبتسرة لغيض من فيض في حق هذه الشخصية الاستثنائية، متجاوزا الكثير من التفاصيل في سيرته الذاتية، استئناسا بذكرى رحيله الخامسة تغمده الله بواسع رحمته وجزاه عنا بأحسن الجزاء.
الأستاذ/ أحمدو ولد شاش