بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
فخامة رئيس الجمهورية؛
أيها الحضور الكريم؛
اسمحوا لي بدءا أن أستثمر هذه السانحة للتعبير عن مدى سعادتي وأنا أحتفي معكم اليوم بمدينة نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي للعام 2023.
واسمحوا لي -كذلك- جمعنا الموقر وضيوفنا الأعزاء أن أتقدم باسمكم جميعا، وباسم كل عالم وأديب وشاعر وكاتب ورسام ونحّات وفنان ومثقف.. باسم هؤلاء جميعا أتقدم بالشكر الخالص والتهنئة المستحقة لصاحب الفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني على العناية الخاصة التي يوليها للثقافة والمنشغلين بها، عناية أثمرت مكتسبات عدة مكنتنا -في أبسط تجلياتها- من أن نجتمع اليوم سويا لنقطف ثمرة مهمة من ثمار توجيهاته واهتمامه بالعلم والثقافة والأدب.
إن إشرافكم معنا اليوم -فخامة رئيس الجمهورية- على إطلاق فعاليات نواكشوط عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي للعام 2023 ليعتبر في حد ذاته أسمى دلالات العناية والرعاية والدعم والتقدير، وهو اعتبار مقدر منكم للثقافة والمثقفين في مختلف بلدان العالم الإسلامي، وللثقافة الموريتانية الأصيلة، التي أعدتم لها ألقها وسفارتها المتجولة ومنارتها المضيئة ومكانتها الريادية.
الشكر موصول كذلك لمعالي الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامى للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) ومن خلاله كل هيئات المنظمة وطواقمها
على هذا الاختيار الذي يعد تزكية من المنظمة وشهادة منها لمكانة مدينة نواكشوط الثقافية، ومكانة البلد عموما في الفضاء الثقافي الإسلامي والإنساني؛ حيث ظلت هذه البلاد ملتقى لثقافات متنوعة، كما كانت قنطرة بين شعوب مختلفة، وحاضنة لحضارات متعددة.
فخامة رئيس الجمهورية
أيها الجمع الكريم؛
إن نوكشوط ليست إلا وجها آخر لشنقيط ووادان وولاتة وتيشيت.. ليست إلا حاضرة من حواضر شنقيط أُسست على الثقافة والعلم والمعرفة من أول يوم؛ فمنذ أكثر من ثمانية قرون وأهل هذه البلاد لا يتنفسون شيئا أكثر من الثقافة والعلم والمعرفة.
إن مكانة الثقافة في حياة أهل هذه الأرض ضاربة في جذور التاريخ؛ إنها ثمانية قرون ونيّف من العطاء العلمي والازدهار المعرفي؛ عطاء وازدهار كانت شواهده وافرةً؛ تعاطاها كل العلماء والمؤرخين والباحثين.. تماما مثلما حملتها قوافل العلم والحج والدعوة والتجارة..
إن الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي عرفها العالم الإسلامي تاريخيا باسم (بلاد شنقيط) نسبة الى ركب الحج الشنقيطي الذي كان جسرا علميا وثقافيا ربط أهل هذه البلاد بأشقائهم في المشرق والمغرب وأفريقيا، لَتفخر –وحُق لها ذلك– بأنها بلاد المحظرة، تلك الجامعة الصحراوية المسافرة أبدا على ظهور العيس، والتي خرجت على المقولة السائدة بأن البادية لا تنتج معرفة ولا علما.
نعم. لقد تخرج من أخصاص هذه الجامعة و أعرشتها عشرات العلماء الذين حملوا اسم بلاد شنقيط إلى العالميْن العربي والاسلامي.. بل وصنعوا من اسمها أيقونة أصبحت بمثابة الكناية الصريحة عن التبحر في الشريعة واللغة، وهو ما صدقته العطاءات التي تركها الشناقطة في كل بلد مروا به، فكانوا ضيوفا معززين مكرمين؛ بل ومرغوبين؛ لأن وجودهم باي مكان مثّل إضافة كبرى، وآثارهم خير دليل على ذلك؛ إذ كانوا بدورا في مكة والمدينة والحجاز والخليج ومصر والعراق والأردن والسودان وتركيا والهند وبلاد المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء.
فخامة رئيس الجمهورية؛
أيها الضيوف الكرام؛
هنا على أديم هذه الأرض تحلق الشعب الموريتاني بجميع ألوانه وأعراقه حول كلمة التوحيد واتخذها دستورا وعروة لا انفصام لها، وحصنا وأمانا جابه به عوامل التفرقة وحطم به مقولات الغلو والتطرف.
هنا وَجدت لغة القرآن ثواءً أثيرا حماها قرونا عديدة، وجعل منها أم المعارف وتاج العلوم.. فكانت في هرم المناهج المحظرية، ثم نمت وأينعت على شفاه المزامير الداوودية التي تصدح بآي الذكر الحكيم صباح مساء.. وتترنم برقيق الشعر في ليالي الصحراء البريئة وأسمارها الدافئة..
هنا وُجدت الفنون الإسلامية لخدمة هذا الدين، فحقق الإنسان الموريتاني عبر تاريخه اكتفاءه الذاتي في مجالات المعرفة، فنسخ الكتب، وتفنن في حفظها وتجليدها، وانفرد بأسلوبه الفريد في الخط والزخرفة..
فخامة رئيس الجمهورية؛
ضيوفنا الكرام؛
إن اختيار نواكشوط عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي، مدين في وجاهته للدور العلمي المشرف الذي اضطلعت به مدننا التاريخية (شنقيط، تيشيت، ولاته، وادان)، وهو ما أهلها لأن تكون مسجلة على لائحة التراث الإنساني.
في هذه المدن وفي غيرها تراكمت، في المكتبات الرسمية والأهلية، كنوز من المخطوطات النادرة شكّل التعرف على بعضها فتحا ثقافيا هاما؛ لكونها كشفت عن نفائس نادرة كان بعضها في حكم المنقرض.
كما تفصح هذه المدن عن ملامح معمارية وجمالية تستحق التوقف، تماما مثلما توقف عندها المؤسسون ذات يوم، شأنهم في ذلك شأن كبار المؤرخين المسلمين والمستشرقين من مختلف بلدان العالم.
فخامة الرئيس؛
أيها الجمع الكريم؛
تشكل هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا فرصة مواتية للتواصل الثقافي العميق بين شعوبنا الإسلامية، وفرصة كذلك لاستثمار المشترك بينها مع شعوب العالم؛ إنها مناسبة لإقامة حوار ثقافي نبرز من خلاله عمق ثقافتنا الإسلامية ونقاءها، وتشبّعها بقيم التسامح والتعايش والسلام، إنها فرصة -أيضا- لتقديم صورة ناصعة عن جوهر ديننا الإسلامي القائم على الخير والبذل والعطاء.
لقد آن للعالم أن يدرك عمق الثقافة في عالمنا الإسلامي، وما قامت به من أدوار مركزية ومحورية في تاريخ بناء الحضارة الإنسانية، وما تتسم به -كذلك- من رحمة وتسامح وانفتاح وسلام.. هذه الثقافة التي احتضنت كل المنتمين إلى فضائها؛ دون اعتبار لقضايا العرق أو اللون أو المعتقد.. بل إن الذين بنوها - من علماء ومفكرين ومثقفين وفنيين وحرفيين- لا يجمعهم -في الغالب- إلا الانتماء الحضاري الإداري؛ إذ كانوا من أعراق شتى وأمم عديدة وأديان مختلفة.
ضيوفنا الكرام؛
أيتها السيدات؛
أيها السادة؛
إن المقاربة الثقافية لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني تنطلق من تصور مركّب لدور الثقافة الوطني والإقليمي والدولي.. فالثقافة أداة صلبة لتعزيز الانسجام المجتمعي، ولترسيخ قيم الانفتاح والتعايش والتسامح.. في ظل تصاعد موجات الغلو والتطرف والكراهية.. وهي في ذات الوقت طريق سالك لحوار حضاري إنساني، تتكامل فيه البشرية وتستثمر تنوعها وتعددها ومشتركاتها لصالح استمرارية بقائها على هذا الكوكب المهدد بالعديد من المخاطر والمزالق وقانا الله شرها.
وفي سياق هذه المقاربة الثقافية تتنزل جهود حكومة معالي الوزير الأول السيد محمد ولد بلال ولد مسعود التي تسعى جاهدة إلى خلق نهضة ثقافية فكرية ومجتمعية تساهم في تسريع وتيرة تجسيد وتنفيذ المشروع المجتمعي الطموح لفخامة رئيس الجمهورية الهادف إلى تحقيق التنمية الشاملة والمستديمة بالبلد، وذلك عبر العمل على كل الجبهات بغية دعم الوحدة الوطنية واستثمار الدبلوماسية الثقافية إقليميا ودوليا؛ بما يضمن خلق مناعة ثقافية ضد الأفكار والرؤى الهدامة، ويساهم في استشراف مستقبل واعد للبلد وللإنسانية جمعاء.
فخامة رئيس الجمهورية؛
أيها الجمع الكريم؛
إن تثمين الموروث الثقافي يقتضي الاعتراف -أولا- بأدوار كل المساهمين في هذا الموروث؛ ومن هنا وتجسيدا لإرادتكم الصادقة وتعليماتكم السامية -فخامة الرئيس- بإنصاف كل من وضع لبنة في هذا البناء مهما كانت مواقعهم وإسهاماتهم، والاعتراف لهم بما قاموا به من أدوار ظلت سنوات طويلة منسية ومتجاهَلة عمل قطاعنا على تسليط الضوء على تراثنا الثقافي الوطني بكل مكوناته؛ وفق مقاربة ترى أن القلم والمنجل والمطرقة والمخيط والعصا.. كلها أدوات -بغض النظر عمّن حملها- لصناعة الثقافة وخدمة الإنسان؛ لذلك نشكركم مرة أخرى -في منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة- على تسجيل المحظرة على قائمة التراث الإسلامي؛ إضافة إلى تصنيف ثمانية مواقع أثرية وطنية على نفس القائمة، وهي مناسبة للتنويه بتعويلنا عليكم في دعم ملف تسجيلها (أقصد المحظرة والمواقع الأثرية) على قائمة التراث الإنساني لدى اليونسكو.
فخامة رئيس الجمهورية؛
أيها الضيوف الأكارم؛
لقد بذلت الحكومة -انسجاما مع تعهدات فخامة رئيس الجمهورية- جهودا معتبرة في سبيل الحفاظ على الموروث الثقافي والتراثي وتنميته وتثمينه؛ وذلك من خلال مقاربة ثقافية-تنموية لا تقتصر رؤيتها على الاحتفاء بالماضي؛ وإنما تنظر إلى الحاضر وتستشرف المستقبل؛ من أجل أن تظل حواضر وحواضن ذلك الموروث عامرة؛ فلا تتكرر تجارب "آزوكي" و"تينيكي" و"أودغست" و"كومبي صالح".. التي تحولت من مدن عامرة إلى أطلال مترامية.. من هنا وبتعليمات سامية وإشراف مباشر منكم -صاحب الفخامة- تم العمل على تطوير "مهرجان مدائن التراث" ليشمل مكونة تنموية متعددة القطاعات؛ تثبّت الساكنة في مدنهم، وتوفر لهم حدا مقبولا من وسائل العيش الكريم، كما تم العمل -كذلك- على استحداث مهرجان وطني بمدينة "جول" بولاية "كوركول" سيتم تنظيم نسخته الأولى في الرابع والعشرين من فبراير القادم، وسيمثل -هو الآخر- فرصة كبرى لدفع عجلة التنمية في المنطقة؛ من خلال المكونة التنموية -متعددة القطاعات- المصاحبة له؛ كما سيكون سانحة للكشف عن كنوز حضارتنا وثقافتنا الثرية والعريقة المحاذية لضفاف النهر؛ فالأنهار كانت دوما مهدا للحياة والبناء والآثار.
وفضلا عن كل ما سبق، عملنا على ترقية ودعم المهرجانات الخصوصية؛ من أجل إثراء الحراك الثقافي والحفاظ على موروثنا الوطني.. وعقلنةً لذلك وترشيدا له وضعنا إطارا تنظيميا مؤقتا يضم كل الفاعلين في المجال الثقافي.
وفي مجال الفنون تم -فاتح نوفمبر المنصرم- إطلاق هذه النسخة الأولى من جائزة فخامة رئيس الجمهورية للفنون الجميلة؛ بغية تنشيط الساحة الفنية من أجل الرفع من مكانة الأنماط الثقافية الحديثة والدفع بإسهامها في التنمية الثقافية، وفي ذات الوقت يتم التحضير لإطلاق النسخة الأولى من المسابقة الكبرى للقراءة؛ إشاعة ودعما لروح القراءة، وسعيا للمصالحة بين أجيالنا اليوم والكتاب؛ بعد أن تشوهت تلك العلاقة في الفترات الأخيرة؛ بفعل التطور المتسارع لوسائل التواصل والاتصال.
التحول المجتمعي لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الهادف إلى تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية شاملة ومستدامة بالبلد من جهة ثانية.
فخامة رئيس الجمهورية؛
أيها الجمع الكريم؛
لم يكن ذلك إلا ملمحا مقتضبا من استراتيجية عامة وطموحة نعمل عليها في القطاع ترجمة للمشروع المجتمعي لفخامة رئيس الجمهورية؛ الذي يفسر إشرافُه على هذا الحدث اليوم ما تعنيه الثقافة لدينا، وما نبني عليها من آمال تمت بلورة البعض منها في إطار خطة عمل نواكشوط عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي للعام 2023 ضمن حزمة من البرامج الثقافية المميزة، ومشاريع للبنى التحتية، ندعو جميع الدول الأعضاء إلى دعمها وإثرائها، والمساهمة في تسريع وتيرة تنفيذها، ونعلق آمالا جساما على منظمتنا (منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة) في دعم وتنسيق كل الجهود في هذا الصدد.. وختاما أتمنى لكم -أشقاءنا وضيوفنا الأكارم- مقاما هنيئا سعيدا مباركا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
Facebook Twitter WhatsApp انشر