أصبح ذات يوم، كما كل يوم على أزيز المحركات وصفير الرياح..استيقظ باكرا وتمنطق ببندقيته، وحمل عدة القتال وأخذ مكانه بين رفاق السلاح.
مضى الركب في رحلة جديدة إلى المجهول، ركبوا بساط الريح واختفوا مجددا بين التلال والسهول والربى… لكأنهم يلهثون وراء “هدف” تتقاذفه هوج العواصف أو تخبئه الصحراء بين ثنايا حبات الرمل المتحركة…كانوا، في هذا اليم اللامتناهي كمن يطارد خيط دخان…
بدا له كما لو أن عجلة الزمن قد توقفت، إنه يغفو ويصحو على ذات المشاهد والشخوص، لا معالم، لا إشارات، لا أثر لأي كان على الطريق.. إنه كمن يدور حول ذاته، أو كأن الأشياء والكائنات هي التي تدور من حوله… شعر للحظة أنه “مركز الكون”، فتداعت إلى مخيلته الفلسفة الصوفية بكل تجلياتها، فشعر بصفاء روحي عظيم…
لكن حالة “التيه” والتجوال الدائم في الصحراء، جعلته يستشعر جانبا “عبثيا”، كان يعكر عليه من حين لآخر صفاء سماء فردوس التأمل هذا، كان كمن ينوء دون جدوى بصخرة سيزيف الهائلة…
منح لنفسه مزيدا من الوقت للتفكير في هذا الموقف النفسي الملتبس… أطرق متأملا… تذكر لحظات الوداع… أدرك أنه خلف نساء وأطفالا وشيوخا، وأنه أقسم أن يحميهم من كيد الأشرار وعبث العابثين… تذكر أن عليه باستمرار أن يظل حامي الحمى وأسد العرين…
رفع رأسه فجأة، نظر إلى الأعلى، لمح قبسا من نور هناك في نهاية الأفق، تبينها نجمة تتلألأ في عمق المدى، لتضيئ الكون وتظل الكائنات…
أصغى للحظة إلى نداء خفي، اقتحم عليه خلوته ومزق جدران الصمت التي ضربتها من حوله حالة التفكير والتأمل… كان ذلك النداء يرتفع رويدا رويدا ويقوى باطراد… إنه قادم من أعماق النفس… صوت شجي متهدج، يناديه ويستحثه على المضي قدما إلى موعد مع الشهادة.. علم أن عليه أن لا يحني هامته بعد اليوم وأن يرفع رأسه، ليعانق ذرى المجد المؤثل…
فقرر أن يلبي النداء… نداء الوطن والواجب، فحلق على أجنحة الشرف والعظمة إلى العلى والسمو… إلى مقام الصديقين والشهداء…
رحمك الله وتقبلك في عليين يا شهيد الوطن والواجب…