إن لله نفحات في بعض أزمنته وأمكنته يجعل بها من فضله وبركته وخيره وعفوه وغفرانه ما يختار ، له الخيرة سبحانه وتعالى ، فقد اختص من البقاع البعض بعظيم بركته ، فمن هذه البقاع محل معراج رسوله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى ، ومنها مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، من عليهما ببيته العتيق المعظم من قديم الأزل في جميع النحل والديانات قبلة المسلمين أحياء وأمواتا ، ومهاجر نبيه صلى الله عليه وسلم ومكان دفن جسده الطاهر ، كما اختص من الأزمنة الأشهر الحرم الأربع شوال وذي القعدة وذي الحجة ورجب الفرد ، لكن خصوصية رمضان أعظم لأنه شهر القرآن الذي أنزل الله فيه القرآن العظيم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وجعله وعاء لعبادة هو اصطفاها لنفسه (الصوم لي وأنا أجزي به ) وجعل فيه ليلة هي خير من ألف شهر : ليلة القدر التي يفرق فيها كل أمر حكيم من الحكيم العليم ، وجعل قيامه وصيامه مكفرا للذنوب ، فبإهلاله تصفد مردة الشياطين وتجعل في الأغلال ، فتنتشي النفوس وتطمئن وتستبشر القلوب وتفرح ، وبثبوته في المدينة المنورة تتزين الشوارع بالمصابيح وتبتهج ، يحيا بالزغاريد وطلقات المدافع والتهاني والتبريكات والهدايا ، سائلين الله وقائلين : اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، فيكشف عن ساق ويشمر عن سواعد الجد والإخلاص وينبذ الكسل والخمول وراء الظهور ، ويتجه المصلون جماعات وفرادى صوب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بتهليل الله وتكبيره متطهرين حسيا ومعنويا ، ما أحلى البدء في أول ليلة من الشهر الأغر مع كوكبة أئمة القيام بالمسجد النبوي الأفذاذ ، متنوعي الأصوات والحناجر غر الوجوه بأصوات البلابل ، في تناوب مسل مرتلين لكتاب الله عز وجل بخشوع وسكينة ووقار بادئين بسنام القرآن وذروته البقرة مرتلينه بالتحقيق أو التدوير ساعة وبالحدر حينا آخر يتلونه حق تلاوته متمكنين من إعطاء كل حرف حقه ومستحقه متأثرين بالمعانى ومتفاعلين مع القرآن في الوقف والأداء
في أول ليلة من ليالي الشهر المبارك لله عتقاء من النار يتفاوت العباد ويتنافسون في ذلك بالخشوع والتذلل والإلحاح والبكاء والانطراح بين يدي الغفور الرحيم ، ثم في الليلة الموالية يعتق جل ثناؤه ضعف عتقاء الليلة الماضية ، وهكذا ، كلما تقدم الشهر كلما ازدانت العبادة وتضاعف الأجر ولذ السماع وطربت القلوب واشتد الجسم ولان القلب وسكنت الجوارح وتعلقت النفوس بالوقت والمكان حتى صار المسير إليه انسيابيا عفوا كالتنفس ، فتمر الليالي سراعا على غير العادة ـ للقائم الصائم ـ كأنها نار هشيم تعقبتها الرياح فتزداد القلوب تعلقا بباريها وحرصا على الاغتراف من المعين والزلال قبل الصدور وقبل أن تزف المراكب ويحين الأفول ، وكلما تقدم الشهر اشتد الحرص على طلب القبول ، وبدخول العشر الأواخر مظنة ليلة القدر وبدء التهجد تكون النفوس قد بلغت من الجهد ذروته ، فينظر الرائي إلى صفوف المأمومين مطأطئين كأن علي رؤوسهم الطير غاضين أبصارهم خاشعين ومبتهلين وجلة قلوبهم داعين الله : اللهم أعده علينا سنوات عديدة وأعوام مديدة ونحن في أتم صحة وعافية ، ثم يكون الختام وكأن حبيبا عزيزا على النفوس فارق جسده أجسادنا فتتفطر قلوبنا وتتشقق أكبادنا وتخرج المهج من أجسادنا متشبثة به ملتصقة ، فيكون وقع دعاء الختام أشد وآلم علينا فلا نستطيع أن نسيطر على مكنونات الحزن الدفين فتنفجر الصدور بالبكاء والعويل وتشرق المآقي ولا يبقى في المقل دمع ، فنقول إنا لفراقك يا رمضان لمحزونون
الحسن بن اميمين