لم تكن التقسيمات الاجتماعية بهذا البلد إلا خلقا لتوازن الرعب بين مكونات تمور بها هذه الصحراء التي لم ينظمها حكم ولم تخضعها سلطة فكانت برزخا بين العمالتين البوصيابية والإسماعيلية، ولم تكن الحياة الكريمة متاحة بها إلا لمن استظل بركاب أو لاذ بكتاب، فلأهل الشوكة من حسان خيلهم ورجلهم التي يحمون بها أنفسهم ويمارسون بها نفوذهم؛ ولأهل الثقافة في مقابل ذلك علمهم وكراماتهم وغير ذلك من الميتافيزيقا التي توفر لهم أمنهم ونفوذهم وتتيح لهم اقتسام المكتسبات مع غرمائهم؛ وتحت جذور هاتين الطائفتين دخلت الفئات الهشة والأقل حظا من القوة والمعرفة لكنها أيضا مارست حقها في حماية وجودها بالمتاح لها من وسائل إرهاب الخصمين المسيطرين(حسان والزوايا) فإذا كان ل"العربِ" أن يشهر سلاحه لقهر من أراد ول"الزاوِ"أن يفتح كتابه لابتزاز من شاء فإن بعض هذه الفئات يوفر الأمان لنفسه بامتهانه " المصَّ أو السَّلَّ" زارعا الخوف في قلوب المتغلبين الذين ليس لهم إلا اتقاءه ومداراته للسلامة من شره، وقل مثل ذلك في من يستطيع أن يجعل ناقتك تنفر من ولدها فيفسد ضرعها وتُحرَم لبنها فلا يبقى لك إلا أن تترضاه فاتلا في ذروته وغاربه حتى لا يأتي ما لا تحمد عقباه، وكم من مرة كان السيد ضحية وشاية أو تسميم من خدمه المقربين وذلك أيضا مظهر من مظاهر توازن الرعب.
إن لكل فصيل في هذه البلاد خبيئته التي لا يستخدمها إلا حين تتضرر مصالحه ويُهدد وجوده وهذا من دفاع الله الناس بعضهم ببعض.
ومع بزوغ نجم الدولة الحديثة وظهور قيم المواطنة وتطور الإعلام وظهور محركات البحث والوسائط الاجتماعية بدأت كل الفئات ترمق علاقتها بالفئات الأُخرى بعين الريبة في مراجعات تلاحظ ما كان يمارس باسم اللوح غالبا غاضة الطرف عما كان يمارس تحت العناوين الأُخرى وحجة هؤلاء أن ما أصبح الاطلاع عليه من المعارف متاحا يدين الكثير مما استأثر به أصحاب الدواة والنِّقس.
والحق أن ذلك التقسيم هو وظيفي بالأساس فقد يمسي الرجل زاويا ويصبح من حملة السلاح والعكس، وقد يمسي الرجل وبيده أعنة الخيل ثم يصبح جالسا على علاته وكيره والعكس، وليس الجمع بين خصائص تلك الفئات محرما وربما تحقق للمجموعات والأفراد؛ يقول محمد المختار ولد الحامد:
راجل جانِ عندْ العرادْ@زاوِ يلْحَگْنِ بكْتُوبِ
وَللَّ مِنْ أهْلِ الحرْبِ زادْ@نَحْنَ مِنْ اهْلِ الحُروبِ
وعن التركيبة الاجتماعية تنجر المعاملة تقديسا أو تنجيسا؛ فحتى معاملة الضيف تحددها مكانته الاجتماعية فمنهم من لا يجزئ في حقه غير الذبيحة ومنهم من يكون قراه دون ذلك بحسب موقعه من السلم الاجتماعي، وفي ذلك يحكون أن ضيفا نزل بأُسرة مُقِلَّة فأرادوا أن لا يضيعوه وأن لا يرفعوا قراه عن قدره مع أن سمته جعلهم في حرج شديد لا بد معه من اللجوء إلى الاختبار، وبعد محادثة خفيفة مع الرجل خاطبه رب البيت قائلا:
رأيت اليوم عجبا، رأيت رجلا فكك مدفعا من مدافع النصارى ثم نظف قطعه ودهنها بمخ شاة ذبحت لذلك الغرض ثم أعاد كل قطعة إلى مكانها وأعاد المدفع سيرته الأُولى، فبدا الضيف أكثر تعجبا واستغرابا مما سمع وقال: هذا صنيع صعب ويحتاج للشجاعة والمهارة، وهنا علم المضيف أن صاحبه ليس من أهل الشوكة فسقط أحد احتمالات الذبيحة، ثم باغته باستشكال آخر قائلا: وإنني لأعجب من الرجل يعمد إلى خزانة الكتب فيجس كل كتاب ثم ينفض الغبار عن أكبرها ويأخذ في القراءة وكأنه هو من كتب ذلك الكتاب، فبدا الضيف أكثر استغرابا وقال: لعله ضرب على حفظه مئة مرة أعرف الزوايا يفعلون ذلك، وهنا سقط الاحتمال الثاني للذبيحة، لكن فضول المضيف لم ينته فسأل ضيفه قائلا:
إذا كان ما تحدثنا عنه غريبا فلا يقل عنه غرابة أن يُدخل الرجل يده في الحظيرة في ليلة مظلمة وماطرة ثم يلمس خروفا ويقول(هذا ولد فلانة لنعجة بعينها) وهنا صاح الضيف قائلا:
وما الغرابة في ذلك وقد سقط الخروف في يده عند ولادته.
وهنا تتحدد طبيعة القرى وطريقته؛ ولا شك أن هذا السلوك مشين وليس من الدين في شيء وقد قال صلى الله وسلم"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" ولكنها إفرازات واقع مؤلم تغلب فيه الطين على الدين وتحالفت فيه القوة المادية والروحية لسحق الطبقات الأقل حظا من مقومات الصمود٬ مع أنه لا ينبغي أن ننسى أن المجتمع فتح منافذ للطوارئ تتيح الانتقال من تصنيف اجتماعي إلى تصنيف اجتماعي آخر يصعد بك من سفح الجبل إلى قرناسه أو يهوي بك من القرناس إلى السفح؛ والمرء من حيث يثبت لا من حيث ينبت.
وإذا كانت لكل فئة مظلومية تحملها فئة أُخرى فإن المظلومية التي يتحملها الجميع هي مظلومية "لحراطين" إذ لم تسلم فئة منها بما في ذلك لحراطين أنفسهم إذ بمجرد أن يمنح المجتمع مكانة لأحدهم فإنه يبادر باتخاذ الخول والخدم ليعزز موقعه بين علية القوم، وعموما فإننا جميعا لا ينبغي أن نلفت الجيد للماضي إلا بقدر ما يساعد في بناء الحاضر ورسم ملامح المستقبل.