تمخض الجبل ثلاثا، ولم يلد! (1) أسئلة حائرة موجهة إلى دفاع النيابة! بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

سبت, 05/08/2023 - 16:26

تقديم

من المؤسف حقا، ونحن نخوض غمار هذا الجدل القانوني المصيري بالنسبة لمستقبل العدالة في بلادنا، ولوجود الدولة المدنية التي لا غنى عنها في عالم اليوم، والتي لا تقوم إلا على العدل، أن نجد من بيننا من يعتبرون مهنة المحاماة الشريفة مجرد "أكل عيش" في العراء. ويمعن آخرون في إهانتها فيجعلون منها شعوذة، وتأرجحا "شاطرا" بين الحق والباطل، كما تتأرجح القردة بين أشجار الغابة، أو مهرجو السرك والألعاب البهلوانية في المسرح من أجل كسب دريهمات معدودة وإضحاك الجمهور! 

ولا غرو! فمهنة المحاماة في بلادنا تعاني اليوم من آفة التدهور والانحطاط، ضمن مرفق القضاء المندثر منذ أمد.. وسوف تتلاشى إن لم يتداركها شبابها الصالح، وتحظى مع مرفق القضاء بعناية مركزة من طرف أولي الأمر، لا تلوح تباشيرها في الأفق المنظور! 

ولقد زاد الطين بلة، والخَرْقَ اتساعا، مدى خيبة الأمل التي أصابتنا اليوم! فبينما كنا نعلق آمالا عريضة على دخول قانون المحاماة الجديد الجيد نسبيا ذي الرقم 16/2020 حيز التطبيق، وعلى استلام العمل من طرف مكتب هيئة المحاماة الجديد المنتخب بشبه إجماع، وشروعه في إنجاز "تعهداته" الواسعة بالإصلاح والتشاور واحترام قواعد وأخلاق المهنة وبالاستقامة والاستقلال، صعقنا بملف إفك "فساد العشرية"، وبالدور القذر الذي أسند فيه للعدالة والمحاماة! وإذا بنقيبنا المجرب الذي كنا وما نزال نعول عليه في الملمات، وفي حماية الحقوق والحريات وفي طليعتها حرية وحق الدفاع المقدس، يتخندق بسرعة البرق، دون تبيُّن، في صف الاتهام، حاملا راية طرف مدني وهمي ومغرض، يفتي بتمزيق الدستور، ويبخس أشياء الدفاع، ويتبنى أطروحات جزافية غير قانونية وغير منطقية، أصبحنا مضطرين إلى تمحيصها والرد عليها، إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة!

نواكشوط 21/11/2020    

 

بداية الخيط: 

... وتآمروا فأوقَدوا نار فتنة "المرجعية" المشؤومة، وباعوا أرواحهم للشيطان كما فعل "فاوست Faust" {إن الشيطان للإنسان عدو مبين}! وكادوه كيدا، فألقوه في غيابات الجب، وجاؤوا على قميصه بدم كذب، وافتروا إفك "فساد العشرية":

- انبرى "نواب المأمورية الثالثة يمزقون الدستور، ويخمشون وجه البدر بالأظافر، ويثخنون الشمس بأسياف من خشب! 

- جُنّد محامون وأساتذة وقضاة وصعاليك وذباب إلكتروني متعدد الولاءات والأشكال والألوان! 

وطفقوا ينفثون في العقد: "استشارات قانونية" موجهة، مؤتمرات ومقالات وبيانات صحفية ومقابلات تلفزيونية باهتة، وتدوينات وشعارات وشائعات.. مغرضة! 

تابعت باهتمام بالغ وقائع هذه المؤامرة عبر وسائل الإعلام، وعبر بيانات ومقابلات ومؤتمرات نقيب المحامين الصحفية؛ وخاصة مؤتمره الصحفي الذي عقده باسم "دفاع الدولة" بتاريخ 27 /6/ 2022 ردا على دفاع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ورغبة في "إنارة الرأي العام حتى تكون القضية نورا على علم ما فيها أي غبار" حسب تعبيره؛ فوجدتني مضطرا لتقديم ملاحظاتي حول القضايا التي أثارها؛ وذلك عن طريق أسئلة حائرة لم تجد جوابا بعدُ! إحقاقا للحق، واقتصادا للوقت، ودحضا لكثير من اللغو والفضول.

 

السؤال الأول: حول الأسلوب.

الأسلوب هو الطريقة التي يسلكها المتكلم للتعبير عن الغرض المقصود من الكلام! ومن أغرب ما رأيت في جميع مقابلات نقيب المحامين الموريتانيين التلفزيونية ومؤتمراته الصحفية المتعلقة بهذه القضية؛ وخاصة تلك التي أجراها مع قناة الوطنية في 08 /10/ 020، والأخبار في 28 /01/ 022، و27 /6/ 022، أسلوبه المتمثل في مخاطبة المتلقي بلغة خشبية مفككة، وحجج داحضة ومتناقضة إلى أبعد حد. وذلك رغم إدراكه أن القضية التي يتحدث عنها هي في منتهى الأهمية وتحظى بمتابعة واهتمام الرأي العام الوطني والدولي؛ لحد جَعَلَه هو نفسه يصفها بأنها "ملف من نوع خاص في موريتانيا وفي العالم.."! "قضية تتعلق أساسا برئيس سابق ووزراء معه ومدراء معه متهمين باتهامات من نوع في منتهى الخطورة، وأيضا لأول مرة يحدث هذا النوع من الاتهام في المنطقة...".

ومع ذلك، نجده في كل خرجة إعلامية يُعيد ويُكرر كَيْلَ تهم مجردة داحضة لا يقدم عليها أدنى بينة، ويعتبرها - في الوقت نفسه- قرار إدانة قطعيا ونهائيا، لا يستطيع من وجهت إليه أن يرفع رأسه بعدُ أبدا، أو يطالب بحق من حقوقه، أو يدعي أنه مظلوم! لنتدبر مثلا قوله في مؤتمره ردا على زميلتنا اللبنانية المتميزة: "هذا النوع من التهم لا علاقة له بالسياسة. ومن يريد إعطاءه صبغة سياسية سوف يتعب نفسه، لأن لا أحد يصدقه. لأنه عندما يكون الرئيس السابق الذي يمنعه الدستور منعا مطلقا من ممارسة أي عمل خارج عن مهامه الدستورية التي تتعلق أساسا بسياسة البلاد الاقتصادية والاجتماعية، عندما تكون المسائل المتهم بها كلها تتعلق بتبييض الأموال وتسيير الشركات والحصول على مزايا متعددة وكلها من أجل الكسب الشخصي. فهذا النوع من المسائل لا يمكن تسويقه لا داخليا ولا دوليا. الناس كلهم ضده" (خط التشديد منا)!

قد يتساءل بعضكم ويحار: كيف يتجاهل نقيب المحامين قرينة البراءة التي هي الفطرة والأصل؛ والتي لا يمكن انتهاكها إلا ببينة قطعية ومحققة تحكم بها محكمة مختصة في محاكمة عادلة؟ وهل يتصور أن يغيب عن علمه نص المادة 13 من الدستور التي تقول: "يعتبر كل شخص بريئا حتى تثبت إدانته من قبل هيئة قضائية شرعية"؛ وقول المادة التمهيدية من قانون الإجراءات الجنائية حرفيا: "كل شخص تم اتهامه أو متابعته يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بقرار حائز على قوة الشيء المقضي به، بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية..." (خطوط التشديد منا)؟ وما ذا يفيد سرد وتكرار تهم لا بينة عليها؟

أما أنا فلي رأي آخر؛ وهو أن هذه الخرجات الإعلامية التي يقوم بها نقيبنا المحترم في ملف لا صفة له فيه، إنما تتم بطلب وتوجيه من الزبون، أو من خلية الانقلاب على مرجعية وعهد الرئيس السابق. وهي خلية سياسية وأمنية تتولى إدارة هذا الملف. والخلية والزبون لا يعنيهما في شيء توفر البينة من عدمه، ولا سلامة القانون أو المنطق أو العقل؛ بل كل همهما أن يُوجَّهَ سيل مستمر من التهم بالفساد إلى الرئيس السابق من طرف جماعات معتبرة وأشخاص ذوي سمعة ومكانة ما، وأن تشهد تلك الجماعات والأفراد بـ"تبييض" وتبرير انتهاك الدستور وخرق القوانين. وذلك عملا بـ"الحكمة" الگوبلزية المأثورة: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"! ولم ينتبه ضحايا الزبون والخلية إلى خطورة ما اقترفوه، إلا بعد ابتلاعهم الطُّعم.. فأعرض بعضهم، وتمادى بعض! ولهذين الغرضين (توجيه التهم الباطلة صباح مساء إلى أبرياء، وتبييض انتهاك الدستور وخرق القوانين) "سخر" محامون وأساتذة قانون وقضاة وصحفيون.. وغيرهم. ولم يدرك الجميع - بسبب الغفلة والبعد عن حقائق البلاد وأمور أخرى - أن "حكمة" جوزيف گوبلز قد أطاح بها، في مجتمعنا العريق الشاعر سدوم الثاني، منذ أمد بعيد، حين قال:

وُحَديثٌ مُعــادْ افْمَقْصودْ ** امْنَيْـنْ إِتَـمّْ أَلّا يِنْعادْ

ما عادْ اعْلَ مُفادْ اِعُودْ ** ذاكْ اَلّا حَديثٌ مُعادْ!

        ولهذا السبب، وقِصَر حبل الكذب، لم يعد يصدقهم أحد!

ولمن يريد دليلا آخرَ على رأيي، فهذا مثل آخرُ:

فبعد فشل مؤتمر دفاع النيابة المذكور فشلا ذريعا بكل المعايير، حُرِّكت قطعةٌ أخرى: محامٍ وأستاذ جامعي وقائد سياسي يعيش في الغرب! قال: "إن قرار قاضي التحقيق إحالة القضية أمام محكمة مكافحة الفساد يمثل منعطفا في الإجراءات المتخذة منذ أزيد من سنة لتسليط الضوء ومحاكمة أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ بلادنا. مئات مليارات من أوقيتنا تبخرت أو على الأصح ذهبت إلى جيوب السيد محمد ولد عبد العزيز وجماعته، كما بينت ذلك من قبلُ لجنة التحقيق البرلمانية. لقد قامت شرطة الجرائم الاقتصادية - هي الأخرى- بتحقيقها، ثم قام قطب التحقيق المكلف بمكافحة الفساد بالسير في نفس الاتجاه حين أكد مدى ضخامة الاختلاس والنهب الذي تعرض له المال العام. إن أمر الإحالة هو بالتحديد القرار الذي على أساسه، من الآن، سوف تتم محاكمة قضية عزيز! نعم، إن أمر الإحالة نهائي لأنه يتعلق بجريمة اقتصادية! إن القضية سوف تتم محاكمتها بالطريقة التي قرر قاضي التحقيق"! (خطوط التشديد منا).

فأين البينة فيما يقولون، وأين القانون، وأين الحق والمنطق والعقل في هذا التصريح؟ ذلك ما سنتحدث عنه في سياقه بحول الله وقوته.

يتبع.