بسم الله الرحمن الرحيم
الركن الخامس كما عشته
بعد أن يتطهر الحاج ويتجرد من المخيط والمحيط ، ويحرم بلسانه وقلبه من مكان ميقاته بأحد النسك الثلاثة : إفراد ، قران ، تمتع ، فحينها يخرج من دنياه الفانية تاركها وراءه مقبلا بقلبه وجوارحه على ربه والدار الآخرة رافعا عقيرته بالتلبية قائلا : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، فترتاح نفسه ويطمئن فؤاده ، ويسير بسكينة رويدا رويدا سالكا طريقه وسط القوافل الكثيفة والجحافل العظيمة ذات الوجهة الموحدة إلى بيت الله الحرام بيته المعظم منذ الأزل وحتى قيام الساعة ، قبلة المسلمين أحياء وأمواتا ، بيته الذي أمر خليله إبراهيم علي نبينا وعليه الصلاة والسلام بأن يدعوا الناس إلى حجه فنادي إن الله بني بيتا وأمركم بحجه فحجوه ، وأسمع الله الأجنة في الأرحام والنطف في الأصلاب والإنسان في أصقاع الأرض جبالها وأوديتها وسهولها فأجاب بالتلبية من أراد الله له أن يحج ، فهذا المشهد هو تنفيذ لتلك الاستجابة الطوعية ، وهذه التلبية تلبية بعد تلبية ، فيطوف الحاج ببيت الله الحرام طواف القدوم جاعلا البيت عن يساره غير ملتصق به راملا في أشواطه الثلاثة الأول ماشيا في الأربع الأخيرة مضطبعا بإحرامه ، متضرعا ومبتهلا إلى الله تبارك وتعالى راجيا عفوه وغفرانه ، مكبرا عند بداية كل ركن مستلما الحجر الأسود ـ إن أمكن ـ بفيه أو يده أو عصاه أو مشيرا إليه ، مع استلام الركن اليماني دون الإشارة ، داعيا بقول الله تبارك وتعالى : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } بين الركنين ، ثم يدعوا بما تيسر من القرآن ومأثور الحديث دعاء المبتهل الوجل الخاشع إلى الله ، مصليا ركعتي الطواف بسورتي الكافرون والإخلاص ، ثم يبدأ الركن الثاني ـ بعد الإحرام ـ (السعي) بما بدأ الله به { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، سبعة أشواط مسرعا بين الأعمدة الخضراء مجتهدا في الدعاء وحريصا على الإخلاص فيه ، ثم يكون مبيته في منى ليلة تسع بين الجموع الكثيرة فتختلط بذلك الألسن المتنوعة والأعراق المختلفة ذات الهدف الواحد والموعود المشترك ، مبكرين صبيحة تسع إلى عرفة ليتم بذلك الركن الركين ـ الثالث ـ من أركان الحج ( الحج عرفة ) فينتشر البشر على صعيد واحد في فلاة يتراءون كأنهم حينئذ خرجوا من الأجداث مسرعين إلى ربهم متساوون في الملبس والهدف كلهم فقراء إليه ضعفاء أذلاء يرجون رحمته ويخافون عذابه لا غني ولا سيد ولا رئيس ، الرب واحد والمؤمل واحد لا أحد يحمل اسما بل كل الناس "حاج" تتحطم الأنا والكبرياء والأوسمة على صعيد عرفة فلا يبقى إلا الإخلاص والتوحيد وتلهج الألسن في ذلك اليوم بقول واحد هو أفضل ما قاله النبيون ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) فيذهل الإنسان عن نفسه وزوجه وولده والناس أجمعين لسان حاله يقول : اللهم لا أسألك اليوم إلا نفسي ، فيصلون الظهر والعصر قصرا وجمعا ، ثم ينبرون للدعاء مجتهدين رافعي أصواتهم بالدعاء والتهليل والتكبير والحمد والثناء والتلبية خاشعة أبصارهم وجلة قلوبهم مخبتين متضرعين آملين عفو ربهم ، وفي هذا اليوم ينزل رب العزة تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل عرفة الملائكة فيقول هؤلاء عبادي جاءوا شعثا غبرا من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ، حينئذ ينفر الحجيج بعد غروب الشمس صوب المشعر الحرام < مزدلفة > لحط الرحال فيها أو المبيت إلى إسفار يوم النحر حيث النفير الأكبر إلى الجمرة الكبرى جمرة العقبة ورميها بسبع حصيات ملتقطة من مزدلفة ، أو أي مكان ، في غضب عارم على الشيطان لا يضاهيه غضب ضرب بالحصى فرادى وجملة وضرب بالنعال وبما نالته الأيدي مبسملين ومكبرين ، هرج ومرج لا يكاد الإنسان يسمع نفسه من شدة هول الموقف ، فلا يرى الشيطان أذل ولا أحقر ولا أخزى موقفا من ذلك اليوم ، ثم يحلق الحاج رأسه أو يقصر ، ثم ينحر إن كان لديه هدي ، ثم يطوف طواف الإفاضة ( الركن الرابع ) ليتحلل التحلل الأكبر ، فلم يتبق إلا الرمي والمبيت بمنى ثلاث ليال أو ليلتين للمتعجل ، ليال منى بأيامها ـ وهي أيام التشريق ـ أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى وفى هذه الأيام يستوي الغني والفقير والكبير والصغير والمرأة والرجل فالأرض أو الحجارة مهادهم والسماء لحافهم ينامون قعودا إن تيسر نوم ، لا هم لهم في الدنيا ولا نعيمها لا يشتهون أكلا ولا شربا همهم العبادة وغفران الذنوب والندم والبكاء على ما فرط وسلف في الأيام الخالية راجين من المولى الغفور الرحيم أن يتقبل منهم
الحسن اميمين
مكة المكرمة 13/12/1444